“أن تقتات علي ذاتك ، هكذا بآلية لا مبالية ، دون جوع محسوس او شبع مرغوب ، أن تنتعل الحياة كأداء واجب مقيت بلا رغبة ، ان تمطي حافة الأيام بلا رغبة التنافس علي شهقة أوكسجين تنتزعها بزعم حقك فيها، من ضرس الهواء البليد، لتكرم بها رئة أدمنت تنشق سخام الأحداث ، أن تفعل كل ذلك ، أو لا تفعل ، بالقطع انت أسوأ من في القطيع.”
منح فمه فجوة صغيرة، بالكاد أخرجت كلماته تلك في شكل تمتمات مضطربة ، لقد كان كابوسا كئيبا بصورة استثنائية، لا يدركها الا من مارس الاكتئاب في صورته العادية، يحسُّ الآن بجوع شديد الشراسة ، أصبح الأمر معتاداً، منذ اليوم الذي ترك فيه الاقتيات علي ذاته وتناول وجبة بئيسة من لحم الحقيقة، ما عاد جيش الكائنات وحيدة العين التي تسكن معدته يكتفي بالتغذي علي أعصابه و شرايينه، بل صارت تخرج في تظاهرة شبه دائمة مطالبة باعادة الكرة المستحيلة. تجاهله المتواصل للأمر يجعل الصراخ يكتسي وهن خيبة الأمل، لم يكن من الممكن أن يخبرهم أن الأمر ليس عناداً، وانما عجزا، لكن غياب اللغة المشتركة جعل فكرة الحوار عبثية بدرجة ممتازة. الآن عود الكبريت يخبره أنه لن يشتعل سوي مرة واحدة، وان عليه ان يقرأ الارشادات جيدا في فصل الحرائق من كتيب حياته ، عليه ان يحترم عود الكبريت هذا، هو يتبع خطوات الاشعال بدقة، الا أنه أدرك أخيراً أنه يقرأ من فصل الحرائق المتجددة ذاتية الاشتعال. أطلق زفرة باهتة ثم لاك سيجارته نيئة دون اكتراث لتقاليد التدخين العتيدة ، اضطر ان يبصق بقوة مما آذي صدره المتهالك ، تذكر كيف أن تجاهل الألم ألم آخر ، استرد بعض وعيه الذي أضاعته خطابات الساسة و اناشيد الاذاعة. لم يعد الكابوس صدي في رأسه فقط فقد كان عليه ان يمد يده في جوف الحياة عسي ان تأتي بجديد ، تجول في دهاليز فكره ، تأمل فاترينات أفكاره باهمال ، علي الواجهات الزجاجية البراقة المضاءة بكافة اشكال التدليس والخداع تتكرر فكرة وحيدة بكافة الاشكال؛ “الموت” ، سوق ضخم من الخيالات المبدعة لا يبيع سوي الموت وأدواته اللانهائية ، حتي اللا شيء يمكن ان يقتل ، يستطيع ان يقدم موتا جميلا، يمكنك ان تقضي به سهرة فاخرة وانت مطمئن لاناقتك. راقته الفكرة ، لا بل جعلته يخرج ذاك المخلوق الاثري الذي يدَّعي الابتسام من جوفه ، بدأ يجرب ، الامر ليس معضلة بأي حال ، تلائمه العديد من القياسات ، سيختار رصاصة ،تبدو وديعة بلونها النحاسي المصقول و جلدها الناعم المغري ، يمكنك ان ترتديها قلادة باطمئنان تام ولكن لا تجعلها تصرخ فان فعلت فلن تسمع بعد ذلك شيئا ، في الرأس ؟ ستشوه وجهه، وليس ذلك بالامر المهم ولكنه يخشي ما يخشي ان تعبث بتصفيفة شعره ، هو كل ما يملك ، شعر طويل منسدل علي شاكلة ضفائر غليظة عند المنبت مستدقة الاطراف ، ليس فيها شيء من الجمال البتة بالعكس ، متوحشة ربما وانما ليست جميلة ، ما يهم انه يحبها ولن يدع رصاصة غبية تعبث بها. الغرض من التجريب هو الاستبعاد وصولاً للأمثل المتخيَّل ، اقصاء ما لايصلح أو يصلح بشروط غير موائمة لظرف الطلب ، في بعض الاحيان للاستمتاع ولكنها ثقافة فقر و عجز. اذن سيمر علي فاترينة الموت ذبحا، سحلا وخنقا ، اشكال بدائية تحمل ذات محاذير الرصاص ، كلها ستعبث بشيء ما تعايش معه لمدة تكفي لاعتناق رفض العبث به عقيدة. هل يعقل ان اشكاله المتعددة كلها تحمل في ثناياها محاذير تخل باتساق بريقها الاخاذ ؟ لم يجرب اللاجدوي! نعم ، اللاشيء يبدو رائعا ، سيغرق فيه حد الإختناق ، لن يعبث بشعره ولا برأسه ولا حتي خصيتيه المتدليتين سفاهة. سيصبح رائداً في مجاله و ستحتفي به النخب المثقفة كمجدد في صيغ وأداوات الموت ، سيغدو ما بعد حداثي فكك أقدم المعادلات لا نهائية المعني. سيهاجمه اليمين المتطرف من كافة الأديان لعبثه بصيرورة يجب ان تظل باهتة ، سيكتفي اليسار المتطرف بالتحفظ نكاية في اليمين وخوف ان يلتقي معه في موقف موحد. ربما تطبع صورته وهو يعتمر قبعة غريبة الشكل ويشرع في اشعال لفافة من الحشيش علي اقمصة الفتية والفتيات الكاعبات. ربما يحدث كل ذلك وريما لا ، قد يغدوا صنما حداثيا جديدا او يصبح لا شيءعلي الاطلاق، كل ما يريده الان هو الخروج من دهاليز التصور الي عتمة الواقع البئيس ، تبا لعود الكبريت ، ماذا لو سمح له باشعال تلك اللفافة ؟ الآن فقط تأكد أنه الأسوأ علي الاطلاق.ِ