Site icon المجرة برس

قراءات في رواية “أموشـــــي” للكاتب عصام قيسان .. منتصر منصور

هذه لغة سِيرة مُلائمه تماماً تستعيد فيها الأمكنه سطوة الحكي وجذوتها لاشعال الذاكرة المُوثقه وترسيمها وفق افق سردي مرمم تغيب فيه اللغة وتعقيداتها لصالح البناءات الرصينه الحاكية بقبولها العفوي فلا تقف بين الامكنه والشخوص بل تأخذها معها لأجل تمكين وتمتين المسامات الزمنيه المتسلسله تاريخيا مستصحبه في لغتها بمداخلها المناطقية كسردية خاصة ذات حميمية ديناميكية تعيد الاقتران بصريا ونصيا و تتفرع بين حواشيها لدي السارد، فمجموع السرديات المُتخلق تواتراً أمكن صاحبها من التنقل السلس ليبتكر صياغات حقيقيه أدبية تناسب البعد الزماني المكاني المتجمع في التداخل السردي من نبرة حانية تشبه عصرها ووسامته وانتقالاته المحكية وهذا يجعل القارئ لوهلته الأولي متخيلا البؤرة السردية للنص /بأنه يدور حول الاسم/أموشي/ دون تعزيز وتغزير قوي جداً للذاكرة المكانية ولكن علي العكس تماما نجد ان التفاصيل المُخدمة للنص هي جزئيات اصيلة لا تتجذر خياليا بتشييد أمكنه مشابهة للواقع بل هي الواقع نفسه الذي يطريه السارد مراراً لنجد أن الاحداث نفسها تشي بالأرشفة المَروِيّْة بحذق لغوي مرن تتقاطع فيه الاحداث دونما الاعتماد علي جموح تخيلي يقتاد التفاصيل ليقدح في التماسك البنائي المضطرد الذي لا يزيغ عن وصفها الحياتي فيتخلق الإرباك والتغريب، هي رواية المسلمات غير القابلة للتفكيك رغم الترميز القليل لكنه يتسع وضوحاً داخل السياق وهذا لانها تستند علي واقع حياتي مكوّن فعليا يعتمل فيه الاعتداد وإعادة إنتاج الموروث في قالبه الحياتي بأسلوب سردي ..وبدوافع إنسانية جاذبة ..
اموشي هذا الاسم الذي يختزل في تفاصيل الحكي الصوت المبهم المُعبِّر تلقائياً بمجازات لاتمت لغوياً لحقيقة الحرف الذي يغتال التجريب ليتعداه للالهام الصرف الذي لايجتاز شارع الولاية (الولي الصالح)/الدرويش الزاهد/ في تفصلية متبصرة تثري النص ليلتف حولها حثيثاً ويشيد عليها اقتران الشخوص في إطار حبكة الشخصيه التي لاتفصح عن نفسها بل تمنح الدلالات الموغله في قبولها ورصد المؤثر بإمعان خلّاق/ كشخصية (جان فالجان) في رواية البؤساء/ غير ان البؤس هنا تصريفيا مُجاز كواقع مُرضي ومقبول ،متشكِل مُجتمعيا ويمكن قبوله ولا ينذوي بل يتداخل وذلك في إطار السمات العامة للشخصية السودانية وإن إعتراها بعض النفور الفطري مثلها مثل باقي العالم في بساطة جهله وقبوله به ودمجه السهل هنا يتراءي فعلاً لا يستجدي الإشفاق المشبوب بل من صميم الانسنه المتراحمه تراكميا في العادة والتقليد وهذه مامنحته السطور لكل شخوصها بإستدامة فائقة حتي النهاية بجسارة وإقتران ..
ذات الشخصيه أموشي التي غالبا لا ينصب إهتمامها بالتفاصيل اذ انها تتصدر فكرة بقاءها بعيدا عن الميول الأخري ،الشديدة العرفان بمنظورها الخاص لايشتط جسدها فيزيائياً في طلب حاجاته الاخري رغم ان لها اشراطها البسيطه التي لاتقع ضمنيا في مدار الانتقاء او التمكين بل كل يوم هو يوم جديد وان تشابهت تفاصيله، وتملك مقومات مؤهله لمنحها الدور الرئيسي عوضا عن ادراكها في خضم الالم وأنساق إحتشاده في النهاية ،واستسلامها لحوجات الانسان الاخري كالاكتمال رغم النزعه المضمرة المهادنه للبشر لكنها تبتعد عما كل مسلك غريب او فعل لم تعتاده او تجربه رغم جراءتها الواهنه وقواها الخفيه…
الوصف اللغوي الذي أترع في نفض الغبار عن تلك السير المنسيه يخلق الإيعاز التخيُلي المناسب للأمكنة في فضاءها الجمالي البيئي ،الذي لطواعية نثره يضعنا أمام إمتداد لانهائي لتفرعات محكية تنشأ في تقاربها المكاني في خلق تفاصيل الطبيعه الحاشدة للصور والشخوص ،الشخوص التي ماكان لها أن تتوه رغم تقاطعاتها التي تلبس الذهن في صيرورة تجميعها ادائياً أو ظرفياً بما يخدم الوعاء السردي في لدانة خيوطها ومنحها مساحة الفضول الملائم الذي خلق ذروته التقصي الجيد والتشريح للجزئيات في إقتيادها من مواطن نشأتها حتي غرسها داخل الفضاء المكاني والداخلي دون اللجوء للمثاقفه التي تطيل الذاكرة القرائية وتفبرك لُب القارئ بعيداً عن محيط ترتيله الذهني للحدث فيفقد حصافة التمرحل وتحدث الازاحه القاتلة للتشويق وتسبب الملل …
تنويع المشاهد داخل النص إسترعي فنياً حياكة لغة لاتبعدها الضرورة الحكائيه في عموميتها عن صَدفة بيئتها الغنية المحتوية علي التشكيل المنصهر في الوعاء الصغير بخصوصيته في التعبير عنها بإقتدار لا يشده القارئ غرابةً بل مزجاً محورياً شفافا ذو معان بسيطة نشأت في تقويمها الحياتي وترتبت لتصنع الافهام التخاطبي والتخاطري ويمكن بعد مرور فترة قصيرة من الاندغام في الرواية رؤيتها أي اللغةسهلة جداً وتتجاوز حاشية شرحها وهذا لا يتأتي لكل متلقي(رغم تكفل الراوي مشكوراً ببيانها في آخر الرواية)
في الإحالات التي يفترضها السرد يجعلنا ننظر لشكل الموامة المخلوقه ذات العضوية التي يصنعها البناء الداخلي للنص في تقتيره علي الجذر الذي من شأنه منح الجزء كُلاً حتي وإن تطرق لأمكنة ..لكن تلك الأخيرة لم تتحرك داخله أو لم تجلبهُ إليها بل اتته في خضم تعبيره لتشكل وتسهم في مكونه وجعلت بروزه أقوي وحتي إن_ بدت شذرات اخري_لكن هذا ما افرزه الحكي المُلاحق لبراحات النص، ذلك كان شيئاً محتوما لاغرابة فيه ولا إنغلاق طالما يسير في فلك لايفقد الشعور بالإصل بل يعززه حتي لو وصل لمرحلة الزوال …فالنص في إصطياده للتفاصيل اليوميه في غمرة حكيه يبذر هنا وهناك بعض مكوناته التي تلاحق اصحابها في تشكيلاتهم الإنسانيه وأمكنتهم دون التمظهر بها علي حساب محور البناء الحقيقي المستفيض وثائقيا كما يبدو من عمق ورجاحة الذاكرة المكونه له من الشخوص الذين يطلون تناوباً كأبطال كُثر يعضدون مفاهمياً الحكي الغني والغني جداً بكثرة شخوصه
إن الإنتياب الشعوري الذي يتملك المُبحر في عُمق الرواية هو السكينه العظيمة التي تُلهم صائغها العرفان الحثيث ليصنع مثل هذا العمل الذي لمس جداره المُقام تعايشاً فذاً يصنعه موطن صغير في قلب قاطنيه رغم إنعزاله بمئات الأميال عن أقرب مركز، بيد أنه ظل سامقا يحافظ علي سِماته الوريفه دون أن تكتنفه مُوجدات الحياة الحضرية والغموض الذي تصنعه عِللها في اختراقات الطموح لذويه، إذ نجد التشابه الروحي المُشبع بالمِلل علي إختلاف إقتناعتها لأهوتياً أو تقليدياً نجحت في خلق إطار مُحتوي لإنسان لم تحتنك فكرته الهموم الاخلاقيه القلقه وأداواتها الشائكة المُربكة ذِهنيا في تمحيص الصح والخطأ فطفق متعايش فطريا متصالحا وحادباً علي منظومته..
إن القيمه الجماليه للعمل الادبي ليست في مُعظمها مُتهافتة في صيرورة تعبيرها لخلق البعث الجمالي ذات نفسه وليست توظيفا مُخلا للالفاظ الادبيه والقدرة البلاغيه المُعبرة أو تفريغاً للحقل المعرفي للذاكره بل الغواية التي تمنحها صلادة تعبر بها للاذهان المُتشوقة في خطراتها المعرفيه المُضافه والمضيفه التي تصنع مُخاتلة شعوريه تستطعم الخيال ليرصد ويرسم في حدود المتاح البسيط لغويا والغني مجتمعيا بالالفاظ التي إمتصها من صميم الممارسات والتقاليد والمجتمع والبيئة المتماهيه بعيدا عن الدلالات التضمينيه والغموض فكبحت الصوت المغاير للحدث والتعمية الممارسه والتبريريه ليظل في مجمله برِتمِه الصارموان استفاض وهذا ماتطلبته الضرورة الإجرائية للراوي نفسه
مثل هذه الكتابة التي تمنح فناء خلفيا للقارئ في تجريد الصور داخل عقله وتشكيلها بذاكرته التي منحها القاص حمولتها الجماليه دون وصاية ،فَسحة عريضه ليشارك إقتصاصه للشخوص والامكنه بتوقع حدسي يجايل الحكي فيثريه تساؤلا ويشاطر لُبّْه ، رغم ان الكتابة صنعة إيهاميه ماتعه يظل الاشتراك مُبهجا بين الطرفين -الكاتب/القارئ دون حدوث الضغط الذي تمليه الافكار المُدجنه أو المتجاوزه ،التي تسير إطاريا بالمتلقي وتحتجز خياله وتجعل سطرها إسقاطيا لا يُناقش …
هذا العمل المُكافح الذي يمنح المعضلات الحياتية الضوء في تراتبية رزنامتها يخلق شعورا مُبرحا بإنتقال المجتمعات من حالة شكلها في انطلوجياها الفاضل المتماسك الي التشظي الموسوم بالحنين المتوغل الذي لا ننفك نتأمله إعجابا في اللغه الحميمه الراقصه كتلاوين صوت الوازا وعصافير الشجر ..نوستلوجيا هاتنة بالمحبات التي في مجموعها قد تعيد تخليق هذه المنظومات من جديد إن صَفت الازمنه واعتدلت ..فالانسان هو الانسان المتسائل عن أطرافه التي منحته هذه القوة ليستمر في الحياة ببساطته المبهوتة مُتعجِباً..
كيف تُعزف دلوكه لا يرقُص فيها الأُسطي جمعة ؟
عصام قيسان الذي يكتب بلا ركاكة تسترضي القارئ بصوت الحاكي ذو اللغه الشعريه الجميله المترابطه الخالية من متعلقات واللوازم المكرره يكتب بذات البداهه الغزيرة بإحتدام لُغة مُشبعه مكانيا بكل عمقه الذهني للفكرة ليخلق ذلك التأثير بين الامكنه وسلطتها التاريخيه/الاجتماعيه والحكي واصالته/ فلسفيا وروحياً باحاسيس دافئة ممتعه يتمكن من خيوطها وحبكها ادبيا بتصاوير مدهشه ذات اجراس حيه لغوياً في فضاء مُجسد تاريخياً لايحرم الامكنه من ثباتها، ويعطيها كينونة الشخوص والحياة والفكرة بأثر تأمُلي يمتثل لذات الروح الواهبه التي تمزج في فنائها بين الوعي والخيال فيستثمر تاريخيا ذلك دون قمع داخلي بل إستقراء واضح يُجرد الاشياء لوجه حقيقتها ولا يقحم فيها اضافات تتملق القارئ…
ويمنح ذات بطله الرسائل الصامتة بصدي فيعلن عن نفسه مصدرا للصوت في السياق الاجتماعي السليم/المتغير في افتراضات استفهاميه داخل الحيز الجغرافي يقاتل من اجل ان تُخلق علائق بالوجود كأفكار واضافات ومشاهد لاتنتمي الي نطاقات او ركائز اخري انما تحوم طول الوقت من لحظة نشأتها حتي مماتها ..
بهذه الكتابة عصام يساهم في حيوات شخوصه بذاكرة لاتنفلت ويصنع اقدارهم ومصائرهم ليعطي انطباعا بجودة واصالة مايهم لتوصيله فيبدو الامر مثاليا لا في شكله الخامل والمُقيد بوصف بل كتابة تدفع المكان خارج نفسه ليطل علي العالم ..وبقوة!
Exit mobile version