Site icon المجرة برس

أمواج ناعمة .. جوبا تنحني لخيار المحاصصة القبلية .. ياسر محجوب الحسين

هل نجحت “الخلوة الروحية” هذه المرة في إصلاح ذات بين فرقاء دولة جنوب السودان بعد أن حصد الصراع بينهما حياة نحو نصف مليون مواطن وذاق بقية السكان ويلات مجاعة سارت بها الركبان وشهدت قارة إفريقيا أكبر أزمة لاجئين منذ الإبادة الجماعية في رواندا في عام 1994؟.
قبل نحو عام كان كل من رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت وخصمه اللدود زعيم المتمردين السابق رياك مشار في “خلوة روحية” استمرت ليومين في روما في ضيافة البابا فرانشيسكو بابا الفاتيكان بهدف دعم المصالحة المتعثرة بين الرجلين المتخاصمين رغم التوقيع على اتفاقية سلام بينهما في سبتمبر 2018. في الأسبوع الماضي اتفق الأثنان على تشكيل حكومة انتقالية في البلاد بحلول الموعد النهائي الموافق اليوم السبت، بعد أن تم تأجيل ذلك مرتين حيث كان ذلك مقررا في 12 نوفمبر من العام الماضي، بسبب عدم الوفاء بمعايير رئيسية لاتفاقية السلام.
بيد أن طبيعة الصراع المعقد والتجارب المريرة خلال الفترة القصيرة التي أعقبت انفصال الدولة الوليدة عن السودان في العام 2011 فضلا عن فشل المصالحات السابقة أمر لا شك يفت في عضد المتفائلين ويعزز من توقعات المتشائمين وأول المتشائمين هي منظمة الأمم المتحدة فقد حذر تقرير أصدرته حديثا من أن السلام الحالي في جنوب السودان هش للغاية، وقالت مفوضية حقوق الإنسان هناك في تقرير لها أن الفساد متفش وأن المليشيات يتم تسليحها، وقالت المفوضية أن أكثر من نصف السكان البالغ عددهم 12 مليونا يواجهون خطر المجاعة. فرغم الاتفاق ومظاهر الاحتفاء ما زالت عدد من القضايا المختلف عليها دون حل بما في ذلك تقاسم السلطة وإدماج المقاتلين المتمردين في الجيش، لكن الجانبين اتفقا على تشكيل حكومة وحدة أولا ومن ثم الإلتفات إلى شيطان التفاصيل في وقت لاحق.
وقد بدأ الصراع الدموي بعد عامين من مشوار الاستقلال عن السودان عندما أقال الرئيس سلفاكير نائبه آنذاك رياك مشار الذي تحول إلى قيادة المتمردين. واتهم سلفاكير (وهو من قبيلة الدينكا) مشار (المنتمي لقبيلة النوير) بالتخطيط لانقلاب ضده وهو ما ظل ينفيه مشار. لكن المعروف أن مشار كان قد أعلن الترشح لرئاسة الدولة منافساً سلفا كير.
يشير الواقع في دولة جنوب السودان إلى أن البلاد تتألف من (60) مجموعة قبلية أكبرها مجموعة (الدينكا) التي ينتمي إليها رئيس الدولة سلفا كير، وهم يشكلون ما نسبته (40%) من مجمل تعداد السكان، وتعتبر ثاني أكبر قبيلة في أفريقيا بعد قبيلة الزولو في جنوب إفريقيا. وتأتي قبيلة النوير التي ينتمي إليها مشار في المرتبة الثانية من حيث التعداد إذ يبلغ تعدادها ما يفوق المليون نسمة. وليس الصراع بين القبيلتين صراع جديد بل هو صراع زعامة على الأرض والموارد له امتداداته التاريخية المعلومة. وتتميز دولة جنوب السودان بأنها دولة متعددة القبائل واللغات والإعراق والأديان لكن بدلا من أن يكون هذا التنوع مصدر قوة إلا أن النظام السياسي الحاكم فشل في إدارته فتحول هذا التعدد إلى عامل ضعف.
نظام الحكم الوليد لأحدث دولة في العالم لم يراع في بدايته خصوصية هذه التركيبة، ويصف الدستور نظام حكم البلاد بأنه (نظام رئاسي، جمهورية فدرالية، ديمقراطية تمثيلية). وعليه فقد تواضعت النُخبة الحاكمة وهي الحركة الشعبية (الحزب الحاكم) على أن يكون رئيس البلاد من قبيلة الدينكا ونائبه من قبيلة النوير فيما يتم تقسيم (كيكة) السلطة على القبائل الأخرى بنسب تراعي أوزانها القبلية فهذه هي المعادلة السياسية التي جنبت البلاد صراعاً قلبياً كان يمكن أن يحدث مباشرة بعد الانفصال.
وبعد حرب أهلية استمرت لنحو 7 سنوات سببها الاخلال بتلك المعادلة تأكد للمتصارعين أن الحل المتاح في الوقت الحاضر هو الرجوع لتلك المعادلة لتجنيب البلاد استمرار الحرب الأهلية في ظل تجذر الثقافة القبيلية التي يمكن أن تحل محلها في المستقبل المرجو ثقافة مدنية تستوعب الآخر في اطار تنوع وتبادل ديمقراطي للسلطة، فعاد سلفا كير اليوم وقبل بمشار نائباً له متداركا خطأ إقالته له، وفي ذات الوقت على مشار ألا يتطلع لمنصب رئيس الدولة ويقبل بمنصب نائب الرئيس ويعالج خطأ إعلانه الترشح لرئاسة الدولة منافساً سلفا كير.
وتنص الاتفاقية، الموقعة بين الطرفين على فترة انتقالية مدتها 36 شهرا، ثم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية. وبناءً عليها أدى مشار، اليمين الدستورية نائبا أول لسلفا كير. وأقسم مشار على احترام القانون والإخلاص لجمهورية جنوب السودان، وشهد الاحتفال مصافحة بالأحضان بين مشار وسلفاكير.
وسواء كانت لـ”الخلوة الروحية” بين جدران الفاتيكان أثرا ايجابيا في دعم هذا الاتفاق أم لا وسواء رفع المسيحيون في العالم الصلوات من أجل جنوب السودان كما طلب منهم – حينها – المتحدث باسم سلفا كير إلا أنه من الصعوبة بمكان التحقق من تطبيق اتفاق السلام روحا وجوهرا. ومن الحقائق التي تغفل عمدا أن النظم السياسية التقليدية في إفريقيا ما قبل الاستعمار والتدخلات الأجنبية، كانت نظماً مستقرة وملائمة لطبيعة القارة ولا نقول ديمقراطية بالمفهوم الغربي إذ لم ينتج عنها تلكم الاشكاليات الماثلة اليوم في القارة.
وكتب بعض أبناء القارة من المتعلمين كتبوا مشيدين بالنظم التقليدية؛ ردا على نظرائهم من المستعمرين الذين حاولوا إيجاد مبررات أخلاقية للاستعمار مثل جون استيوارت ميل الذي كان يرى الاستعمار من باب الحسنات اينما وجد الاستبداد في الحكم وهو أمر وصمت به النظم السلطوية التقليدية في إفريقيا زوراً وبهتاناً في نظر أبنائها. وقد ساد في إفريقيا ما قبل الاستعمار نمطان أساسيان للسلطة والحكم: النمط الأول؛ قبائل ذات كيانات متعددة بنظم سياسية مختلفة تحكم نفسها بنفسها. أما النمط الثاني؛ قبائل تخضع لحكم أو حماية قبائل أخرى، سواء طوعاً أو كرهاً. صحيح أن الصراعات القبلية تكاد تكون ثقافة إفريقية متوارثة، إلا أن التدخلات الأجنبية تزيد من اشتعال أوارها، بل تحول دون عمل آليات التهدئة التقليدية.

Exit mobile version