(توافق واشنطن) و (البجعة السوداء)
محنة الرؤية الإقتصادية للثورة
الباحث : عثمان برسي
بالنسبة إلى الخبراء الإستراتيجيين لدى صندوق النقد الدولي، كانت صرخة الاستغاثة القادمة من السودان هبة من هبات السماء، فهذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 40مليون، وإجمالي إنتاجه الآن، يقبع عند معدل سالب (2) في المائة فقط، وقطاعه المصرفي يتميز بحجم متواضع، ويأوي صادرات مقدرة من الذهب، نعم…. إن هذا البلد هو المختبر المثالي الممكن استخدامه مرحليا، إنه المختبر الذي يعوض الخبراء المذكورين عن إجراء تجاربهم في اليونان، ويكتسب فيه العلاج بالصدمة ابعادا جديدة، بكل معنى الكلمة .
((كان نلسون مانديلا قائداً شجاعاً وصاحب رؤى، فالتقدير غير المعتاد الذي حظي به على مستوى العالم أجمع، برهان أكيد على مابذل من جهود، لجعل جنوب افريقيا والعالم مكان أفضل )).
كريستين لاغارد
مدير صندوق النقد الدولي السابق.
غني عن البيان أن عشرة في المائة فقط، من سكان جنوب افريقيا اليوم يشعرون بالأمان، نعم عشرة بالمائة الذين يستحوذون لأنفسهم على خمسين في المائة من مداخيل العائلات، وينعمون برخاء يوفر لهم كل ماتصبو إليه النفس، من كماليات وبضائع، يعيشون آمنين في أحياء تحجبها عن أنظار البؤساء، جدران يبلغ ارتفاعها العديد من الأمتار، و تحيط بها أسلاك شائكة ونظم إنذار وقوات أمنية خاصة مدججة بالسلاح، من اخمص القدم وحتى آخر شعرة في الرأس… وعلى مايبدو، أن هذا هو نوع الحياة التي نوهت بها كريستين لاغارد حينما قالت، أن مانديلا بذل قصارى جهده لأن يجعل ((جنوب افريقيا …مقاما أفضل ))..
بعد أن أشار رئيس الوزراء في لقائه مع الصحفيين في مجلسه بأن الرؤية الاقتصادية هي سودانية محلية مائة بالمائة (طاقية سودانية)، عكس الطاقم الاقتصادي، بقيادة البدوي اتجاه الرياح تماما، لتسقط طاقية حمدوك ادراج الرياح ويبقى الإقتصاد السوداني تحت قبضة الرؤية الراسمالية في نسختها المعولمة (اقتصاد الفقاعة) وإعتمار الإقتصاد السوداني طاقية (الزومبي)، بإنخراط السودان وصندوق النقد الدولي في مفاوضات تهدف لتطبيق برنامج مراقبة من خبراء الصندوق للاقتصاد السوداني، وفي حال نجاح المفاوضات، سيظهر بموجبه أن السودان لديه سجل (حافل) من تنفيذ سياسات اقتصادية جيدة، ويهدف من خلال برنامج المراقبة صندوق النقد الدولي للسيطرة على السياسات وحث الإقتصاد المحلي على تسديد التزاماته المالية الدولية بدون أن يمول الصندوق الإقتصاد بدولار واحد، وبالتالي يحتاج إلى اتخاذ قرارات وإصلاحات جريئة شاملة وجراحة على نمط جراحة أزمة( التيكيلا) الأرجنتينية ،حتى يستقر الاقتصاد ،ويقوى النمو المتراجع في البلاد، من خلال تنفيذ الإصلاحات الضرورية التي تعالج الإختلالات الإقتصادية الكلية الكبيرة. ويضع فريق صندوق النقد الدولي مقترحات للتخفيف من الأوضاع الحالية، كالتالي :
تحرير سعر الصرف.
تعبئة الإيرادات.
الإلغاء التدريجي لدعم السلع عبر موجات متتالية .
العجز الموازني الحكومي
قضية الدين
مما لاشك فيه أن هناك تناقض منهجي كبير جداً، مابين الرؤية الإقتصادية التي أشار لها حمدوك ،والوقوع في فخ صندوق النقد الدولي من خلال طاقمه الإقتصادي، الذي يقوده البدوي هذا التخبط يتمثل في رؤية للإقتصاد غير عملية وفضفاضة جداً (الأحزمة ) في أعلى الهرم، والتخبط الذي إستدعى تشكيل لجنة لسداد( عجز الأجور)، بعد مرور شهر واحد على بداية تطبيق زيادة تعتبر كارثية( بالمنطق الاقتصادي ) على هيكل الأجور، لأنها أولا، تعتبر محرمة اقتصاديا ،إذا رافقها تحرير لسعر الصرف، ونحن الآن ندرك تماماً إنهيار قيمة العملة المحلية والدولار الآن على أعتاب ال 150 جنيها، يرفض صندوق النقد الدولى إجراء رفع للأجور وتطبيق تحرير للعملة في وقت واحد، وذلك لأن أحد مهامه الرئيسية في تنفيذ السياسات هو خلق الانكماش المالي، عبر تقليل الإنفاق الحكومي، أي تقليل كمية النقد المتدوال بين المواطنين، وأيضاً الإنفاق الحكومي الضروري، وذلك للتفرغ لمهمته الأساسية في تقليل العجز الحكومي في الميزانية، بالتالي تعتبر زيادة الأجور وجه من وجوه التشوه في السياسة الإقتصادية، لأنها تقود إلى انفلات التضخم، بإعتبارها زيادة في الكتلة النقدية تتحالف مع تحرير سعر العملة المحلية (التعويم) ليتحدد سعرها في السوق الموازي (الأسود ) والتي تقود التضخم إلى أرقام أكبر، ينتج عنهما تضخم مزدوج (انفجاري)، بالتالي تعتبر زيادة الأجور الحالية وكأنها استباق لسياسات الصندوق عند المفاوضات، لأن السياسات التي سيتفاوض عليها الصندوق مع الطاقم الإقتصادي كلها ذات أثر تضخمي، تقود إلى زيادة التضخم وزيادة التكلفة في الإقتصاد التي تراكم من الأثر، (كرة الثلج المتدحرجة ) بالتالي تعتبر الزيادة في الأجور بمثابة ملطف، (حرب استباقية ) ضد إفرازات سياسات رفع الدعم عن السلع وتقليل الإنفاق الحكومي وتحرير (تعويم)الجنيه.
ولكن يغيب عن الطاقم الإقتصادي أن الزيادة في الأجور بمتوالية عددية، بينما الزيادة في الأسعار تعمل وفق المتوالية الهندسية، وهو نوع من زيادة الإنفاق الحكومي الردئ، ويعتبر عبء إضافي للموازنة التي سيتسع عجزها بنسبة معتبرة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، والتي سوف ستسهدفها سياسات صندوق النقد الدولي، حيث من أهم سياسات الصندوق التركيز في محورين في مالية الدولة، هما العجز والدين العام، حيث يعتقد خبراء الصندوق و(صبية شيكاغو) النقديين أن الأزمة الاقتصادية دائماً تكمن في عجز الموازنة في الدولة، وتجاوز الدين الحكومي النسبة الآمنة وتم تحديدها ب 90%.. وفي الاقتصادات الناشئة ب 60%.. غير أن الأزمة المالية العالمية أثبتت عدم مصداقية هذه الروابط الإقتصادية كإفتراضات للبحث في أي أزمة إقتصادية، فنجد أن حزم التقشف التي طبقتها أوروبا وسياسات تقليل الإنفاق الحكومي قد أدت إلى زيادة في انكماشات النمو الإقتصادي، وزادت من نسبة العجز الحكومي، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وتم تطبيق التقشف على نحو قاس في اليونان، أدى في النهاية إلى إعتراف الصندوق بخطأ الفرضيات والمضاعفات الحكومية التي خرجت بها دراسة( رينهارت و روغوف)، حيث تم الإستناد إلى دراستهما بخصوص الحلول المقدمة لمعالجة الأزمة المالية العالمية.
سياسات صندوق النقد الدولي تهيمن عليها العلاقة بين المديونية العامة والنمو الإقتصادي في الدراسات، وفي وضع الحلول بالنسبة للاقتصادات الهشة، حيث لا بد من تخفيض الدين اولا وهنا، خبراء الصندوق فقط سيضمنون أن الدولة المعنية قد سخرت كل إمكانيات النمو فيها، لارجاع المديونية عبر التقشف، بينما في أصل (النمو) الداخلي نشهد نتاج هذه السياسات تراكم انكماشي للنمو، يعمل في خلفية هذه السياسات، وهذه هي القصة التي تفسر الإنهيار الإقتصادي، وتحوله إلى إضطرابات سياسية في الدول التي يرسمون لها سياساتها، حيث تنطلق سياساتهم بالمقلوب، أي أن تخفيض الدين الحكومي سيقود إلى النمو الإقتصادي، متناسيين عن عمد إنه لايمكن تسديد الديون إلا برفع نسبة النمو، لأن في الاقتصادات الهشة ذات المؤشرات الضعيفة جداً تكون العلاقة الإقتصادية سلبية بين المتغيرات المذكورة بإتجاه النمو الاقتصادي، و تؤدي إلى إنهيار وتدهور مؤشرات المديونية، بدلاً من الإعتقاد الشائع بأن المديونية تؤدي إلى إنخفاض النمو الإقتصادي، حيث غالباً تظهر بين هذه المتغيرات (الدين الحكومي /العجز الموازني /معدل النمو ) وجود متغير ثالث يؤثر في الوقت نفسه على المديونية والعجز الحكومي والنمو الإقتصادي، وبالتحديد هنا في الاقتصاد السوداني هذا المتغير الخارجي هو تقلبات أسعار الصرف، التي يخرجونها من المعادلة وهو الثقب الأسود، الخفي الذي يدير معركة انهيار الإقتصاد من الخلف وفق سياساتهم.
إذا الصورة الصحيحة التي يجب علينا القيام بها هو عكس إتجاه مقود السيارة، حيث نقوم بقلب معادلة الصندوق بحيث تكون العلاقة السببية مؤسسة على (( تحرك الإقتصاد السوداني من النمو الإقتصادي إلى الدين العام والعجز الحكومي )) وبالتالي السيطرة على السببية العكسية التي ينادي بها خبراء صندوق النقد في البرنامج المراقب للإقتصاد السوداني والتي محورها الأساس أداة رفع الدعم وتخفيضات نفقات الدولة والتي كنتيجة لا مفر منها ينتج عنها ميل نحو التباطؤ والانخفاض في مستوى النشاط الإقتصادي من خلال التطورات والتداعيات على الإيرادات العامة المستقبلية، وهي حتماً ستقود إلى تفاقم مؤشرات المديونية للإقتصاد السوداني،(هذا هو تلوث الديون في البلدان الفقيرة والمثقلة بالديون)، مما يعرقل الوفاء بالديون في نهاية المطاف كما هو واضح في تطور نسب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي منذ السبعينيات. ((فكيف نجرب المجرب؟ )).
خريطة الأزمة التي تعمل فيها سياسات رفع الدعم وتقليل الإنفاق الحكومي (التقشف ) هي مزيد من نقل الديون من القطاع الخاص إلى الدولة، وليس الخروج من الأزمة عبر معادلة إقتصادية جادة وعلمية، لتوزيع نقل الديون بين القطاعات الإقتصادية، لأن الافتراض الإقتصادي العلمي هنا أن الدولة هي الوكيل الأول للنمو، عوامل النمو من رأس مال، موارد، تكنلوجيا، موارد بشرية، يأتي القطاع العام في رأس القائمة في عوامل النمو ، وذلك تبعاً لدرجة النضج الإقتصادي ودرجة الخمول الإقتصادي، والظروف المالية للإقتصاد، وليس تخريفات إقتصاد الزومبي.
سياسة الأجور المعدلة الأخيرة تعتمد المعادلة الريكاردية (ريكاردو) حول العلاقة بين التوازن المالي والنشاط الإقتصادي، على فكرة أن الحكومة لايمكنها التأثير على الطلب على المدى الطويل (طرق توسيع الطلب الحكومي للتأثير على الطلب الكلي ) وبالتالي إحداث إنفاق حكومي لتوفير زيادة صافية في الطلب الكلي من خلال تأثير الدخل (رفع الأجور ) ناشئ عن اعتقادهم فيما يتعلق بقدرة الضبط المالي، وهنا تتداخل عندهم التأثيرات الإيجابية للطلب الناتج عن زيادة الأجر، مع التأثير السلبي للضبط المالي، متجاهلين الإختلافات والترابطات بين القطاعات الإقتصادية في_ مثلاً_ هشاشة النظام المصرفي، الذي سوف يهزم هذه السياسة بإرتياح منقطع النظير، أيضا دبابة التضخم والأخير له ترسانة قوية تعتمد( عدم اليقينيةUncertainty ) (وتلاشي الثقة Lack Of Confidence ) .
سياسات رفع الدعم وطبيعة عمل الصندوق في برامجه المراقب، لا تعتمد هذه التفاوتات المختلفة بين القطاعات الإقتصادية، وداخلها والترابطات الذاتية، مما يجعل إقتراحات السياسة الإقتصادية، تختلف بشكل كبير عن تلك التي يتم العثور عليها عند تجاهل هذه الميزات (سلسلة معدل نمو الناتج المحلي /بيانات التضخم /أسعار الصرف /الانكماشات المالية /النفقات العامة /الضرائب ).
osmanbarci1@gmail.com