رحم الله والدتي العزيزة المرأة الطيبة الإنسانة الفاضلة النبيلة الحاجة سوق المدينة محمد أحمد إدريس أم الكل الراحلة المحبوبة من الجميع لدماثة ومكارم أخلاقها وسماحة نفسها وكرمها وجودها وتعاملها الراقي المهذب مع الجميع وكانت علي خلق ودين ونرجو أن يجعل الله سبحانه وتعالي قبرها روضة من رياض الجنة ويلهمنا الصبر ونتلمس منكم الدعاء لها …. ورغم الجرح والحزن الأليم إلا أنني أتحامل علي نفسي لأكتب هذه الأسطر المقتضبة لأن حالة الوطن الآن تدعو للرثاء والبكاء وهو علي حافة الإنهيار والسقوط في هاوية سحيقة ويقتضي هذا عدم دفن الرؤوس في الرمال والوضع الآني البالغ الحرج يقتضي مواجهة الحقائق وهي عارية من المساحيق.
وان الوطن يتردي كل يوم وتسير سفينته بلا بوصلة ولا يوجد نجم قطبي هادى بل توجد مجموعة أقطاب متنافرة متناحرة متشاكسة وتسعي لتحقيق مطامعها في السلطة والجاه وتكريس مكاسبها الحزبية الضيقة مع نرجسية زائدة وتضخيم للذات عند البعض واختصار للوطن في شخوصهم . ويوجد صراع سخيف بين بعض المنتمين للعهد السابق لاسيما الذين كانوا مستفيدين فيه وفقدوا امتيازاتهم وبين المنتمين للعهد الحالي لا سيما الذين هم في سنة أولي سياسة ويسعون لتعلم الزيانة في رؤوس اليتامي . وان العهد السابق أضحي في ذمة التاريخ وانطوت صفحته ومحكمة التاريخ بعيداً عن الاحكام العاطفية هي التي تحكم بما له وما عليه لأخذ الدروس والعبر ولكن عودته بنفس سطوته السابقة للامساك بكل مقابض السلطة والمال وأجهزة الدولة والتوأمة السيامية الاندماجية بين الدولة والتنظيم والحزب الحاكم فان عودتها من المستحيلات كالغول والعنقاء والخل الوفي . وان كل من لم يسفك دماً او ينتهك عرضاً ولم يسرق وينهب ويستغل النفوذ ولم يتهم في ذمته المالية فان من حقه ان يمارس حقوقه الدستورية كسائر المواطنين دون تمييز عليهم وتبعاً لذلك يمكن ان يكون لهم وجود جزئي محدود كالآخرين وان الذين تقلبوا في المواقع طوال الثلاثين عاماً الماضية قد استنفذوا اغراضهم تماماً واصبحوا عملة غير قابلة للتداول مرة أخري ( وعود الثقاب لا يشتعل مرتين ) وعليهم أن يتركوا الوجود الجزئي لغيرهم تجديداً للوجوه والدماء لتقويم وتصحيح وتجاوز أخطاء الماضي . والواجب يقتضي ترك الانتهازية ونسج الاوهام والاحلام والتخيل الخاطئ بان تردي الأوضاع الآن يصبح مدعاة للحنين للعهد الماضي وفي كل الأحوال مهما تردت الأوضاع وساءت فان العهد السابق الذي انطوت صفحته ليس هو البديل المطلوب وهو بديل مرفوض ولسان الكثيرين يردد قول الحسن بن هاني ( لا ازود الطير عن شجر قد بلوت المر من ثمره ) ومن جانب آخر فان القاصي والداني يدرك التنافر الخفي والمعلن والتشاكس والحرب الباردة بين مكونات النظام الحاكم في الفترة الانتقالية الذي يتعامل بلا وجه حق كأنه مفوض من الشعب السوداني عبر صناديق الاقتراع.
لقد امضت الحكومة منذ تشكيلها هي وحاضنتها عاماً كاملاً تضيع وقتها ووقت الشعب في التصدي لقضايا هي من صميم مهام مرحلة الشرعية الدستورية التي تعقب اجراء الانتخابات بعد انتهاء الفترة الانتقالية واضاعت الوقت في التزلف والتساقط تحت أرجل الدول الغربية بكثرة الحديث عن فصل الدين عن الدولة في السودان ولم تعرهم الدول الغربية ذرة من اهتمامها ولعل هذا أمر لا تهتم به إلا بعض المنظمات وما شابهها لقاء اجر معلوم ومع ذلك ظل بعضهم يردد ان من أهم انجازاتهم هو كسر الحاجز الخارجي والانفتاح علي أمريكا والدول الغربية وإذا تسني لاحدهم الاقتراب في زيارة خارجية من مسؤول أممي أو أمريكي أو أوربي والتقط معه صورة بالموبايل وبثها يتبع ذلك تصريح بأن في هذا نجاح ديبلوماسي وانفتاح علي الخارج وفي هذا خداع للنفس وكذب عليها ولم يقدم المانحون في مؤتمرهم الذي عقد بألمانيا إلا فتات الفتات رغم ما سبقه من صخب اعلامي خادع . وزار وزير الخارجية الامريكي السودان قبل ايام وبعد عودته صدرت في واشنطن تصريحات مفادها أن السودان مطالب بتسديد ما عليه من تعويضات اقرها ووافق علي تسديدها النظام الحالي وهذه خطوة أولية تعقبها خطوات أخري في سبيل رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب والتعاون معه وهذا يعني وفقاً للتجارب في التعامل مع امريكا في العهد السابق والعهد الذي سبقه ان الطريق لا زال وعراً وشاقاً وان اللهث وراء امريكا والدول الغربية في الوقت الراهن لا يجدي فتيلاً ويمكن أن تقدم بين الفينة والأخري حديثاً معسولاً ( من الطوق ولي فوق ) تتبعه ضربات تحت الحزام في الظلام . أما الدول العربية النفطية الغنية فلا يمكن انكار ما قدمته للسودان في أوقات سابقة كالدعم السخي الذي قدمته المملكة العربية السعودية ودولة الأمارات وغيرها من الدول العربية لحكومة سوار الدهب – الجزولي بعد انتفاضة أبريل عام 1985م وما قدمته في العهد السابق من دعم وتمويل لصندوق دعم وتنمية الشرق بعد انعقاد مؤتمر الكويت . وما قدمته لإعمار دارفور بعد توقيع اتفاقية الدوحة ولكن الملموس والمحسوس الآن ان الدول العربية النفطية الشقيقة قد كفت يدها عن دعم هذه الحكومة وان المملكة العربية السعودية ودولة الأمارات قدمتا قليلاً من الدعم في بداية الفترة الانتقالية ثم توقفتا عن اكمال تقديم ما وعدتا به وأحجمتا عن تقديم المساعدات المطلوبة ولو في شكل قروض طويلة المدى في ظل الظروف القاسية والازمات الحادة التي يمر بها السودان ولا ندري هل لانهما غير راضيتين عن ميول وتوجهات الحكومة وحاضنتها أم أن لهما اجندة تضغطان لتحقيقها رغم انهما تدعمان دول عربية أخري بسخاء شديد وتتعاملان مع السودان في ظروفه الاقتصادية البائسة بإهمال وعدم اكتراث وإذا كان لهما موقف من الحكومة كان ينبغي أن يكون دعمهما للشعب ليجتاز هذه المفازة الوعرة . وخلاصة القول إن علاقات السودان الخارجية ليست علي ما يرام … والوضع الاقتصادي مزري وأوضاع المواطنين المعيشية تتردي يومياً من سئ لأسوأ وارتفعت الاسعار في ظل فوضي الأسواق ارتفاعاً صاروخياً جنونياً وفي ظل هذه الأوضاع المعيشية السيئة اضحت السرقات وخطف الموبايلات والأموال وحتي أكياس الخضار والرغيف شيئاً عادياً والاخطر من ذلك أن اللصوص من حملة السواطير والأسلحة البيضاء قد كثر عددهم وكثرت حالات التعدي علي البيوت وقد تقوم عصابات متفلتة من كبار المجرمين واللصوص بالتعدي علي الآمنين في منازل يفترضون وجود أموال كثيرة فيها أما الأحياء الطرفية فقد اصبحت السرقات والنهب فيها شيئاً عادياً ونرجو الا تكون هذه مقدمات لثورة جياع يقودها من ينتمون لاسفل المدينة الذين يحملون في نفوسهم ترسبات وحقد واحساس بالغبن . وقد رفعت مرتبات الموظفين والعمال وهذا من حقهم بل انهم يستحقون أكثر من ذلك ولكن الزيادات امتصها وابتلعها السوق الأسود وضاعت ( شمار في مرقة ) . والأخطر من ذلك إن هذه المرتبات لو نقصت أو تأخر صرفها أو عجزت الحكومة عن تسديدها اذا رفض البنك المركزي عن تمويلها بالعجز وطباعة أوراق ليس لها قيمة شرائية تذكر فان الموظفين والعمال وكافة العاملين سيتوقفون عن العمل وتلقائياً يتوقع حدوث اضراب أو عصيان مدني ليس له أسباب سياسية ولكن سببه الرئيسي عجز الحكومة عن وفائها بالتزاماتها تجاه العاملين . وان الطلبة والطالبات في الجامعات قد تضرروا وتضررت اسرهم كثيراً بسبب توقف الدراسة لفترات طويلة وتراكم الدُفع واذا تم فتح الجامعات في ظل الظروف الراهنة فان جل الطلبة والطالبات لا يستطيعون الوفاء بقيمة التزاماتهم في المأكل والمشرب والترحيل وازاء ذلك فالمتوقع وهم في هذه السن العمرية أن يقوموا باضرابات واضطرابات ولذلك لا بد من وضع المحاذير والتحوطات وعلي الحكومة أن تسعي ما وسعها الجهد لمساعدتهم وتذليل الصعاب امامهم .
وان الجميع يتوقون لارساء دعائم السلام ووضع السلاح والاتجاه للبناء والنماء والعمل والانتاج واعلن إن التوقيع علي الاتفاقية في مدينة جوبا سيتم يوم الأثنين الموافق الحادي والثلاثين من الشهر الجاري والمؤكد ان عملية محاصصة جديدة واعادة توزيع للمناصب السيادية والتنفيذية والولائية ستحدث بعد توقيع الاتفاقية ونأمل أن يتم هذا بسهولة ويسر وألا يحدث نزاع حاد بين قحت والجبهة الثورية حول توزيع المواقع وألا يحدث نزاع داخل مكونات قحت بعد تقليص عدد مواقعها ولا بين مكونات الجبهة الثورية وداخل كل حركة من الحركات لأن كل منهم قد يري أنه أولي بتولي الموقع من غيره ويتمخض الجبل في نهاية المطاف ويلد فاراً ويكون كل الصراع حول المواقع مع عدم ايلاء القضايا التي ادعوا انهم رفعوا السلاح من اجلها أي اهتمام . وكما هو معروف فان عبد العزيز الحلو لم يوقع ويصر اصراراً عنيداً ان يفرض رؤيته علي الشعب السوداني قهراً وقسراً والمؤكد انه ونكاية في الحكومة وفي الجبهة الثورية عندما تكون شريكة في السلطة فالمتوقع ان يكون خميرة عكننة وخنجراً مسموماً في خاصرة الوطن .
وقد يري البعض ان الانتخابات المبكرة هي الحل للخروج من هذا النفق المظلم ولكن من ناحية واقعية وعملية لا يمكن في ظل هذه الظروف الصعبة اهدار الجهد والمال في ترسيم الدوائر واقامة الانتخابات وما يتبعها من صراعات وهوس اعلامي وثرثرة لا أول لها ولا آخر وفي نهاية المطاف حتي إذا افترضنا مجرد افتراض ان حزباً واحداً نال كل الدوائر بالتزكية وعقد البرلمان جلسة اجرائية انتخب فيها رئيس البرلمان ورئيس وأعضاء مجلس السيادة ورئيس الوزراء فانهم لن يستطيعوا تقديم شيء مفيد للوطن وستسقط الحكومة المنتخبة بعد عدة أسابيع أو عدة أشهر علي أفضل تقدير وبعد أبريل عام 1985م وانتهاء الفترة الانتقالية كانت الأوضاع أفضل ومع ذلك تم إعادة تشكيل مجلس الوزراء خمس مرات وسقطت الحكومة بعد ثلاثة أعوام فقط هي كل عمر فترة التعددية الحزبية الثالثة .
والامم في الظروف الطبيعية تحكم وفق ضوابط وبرامج واضحة مع سيادة الجماعية علي الفردانية وهناك ظروف معقدة تحتاج فيها بعض الدول في مراحل الفوضي والضعف التي تجتاحها لزعامات قوية استثنائية فوق العادة كما حدث في فرنسا التي اجتاحتها فوضي فتصدي الجنرال شارل ديجول لقيادة سفينتها في عام 1958م حتي بلغ بها شواطئ الأمان وارسي دعائم الجمهورية الخامسة وعاصر من الروساء الامريكان ايزنهاور وكنيدي وجونسون وتعامل معهم بندية وبمحض ارادته استقال من موقع رئيس الجمهورية في عام 1968م وهو في قمة مجده وتفرغ حتي رحيله عن الدنيا لكتابة مذكراته ولم يتشبث بالسلطة وتركها وهو مرفوع الرأس بعد أن أدي واجبه الوطني باقتدار وارضي ضميره . وفي ماليزيا فان دكتور مهاتير محمد هو باني نهضة ماليزيا الحديثة . والسودان في ظل ظروفه الراهنة يحتاج لفترة انتقالية يشترك فيها العسكريون والمدنيون وتكون مهام العسكريين منصبة علي الاهتمام بالقوات المسلحة الباسلة التي تدافع عن حياض الوطن وتكون درعه الواقي ومن مهامهم حفظ الأمن القومي والقيام بواجباتهم السيادية في مجلس السيادة ويقوم المدنيون بقيادة الجهاز التنفيذي المفترض تكوينه من الخبراء والتكنقراط العمالقة وان يكون البرلمان أيضاً من لجان قوامها الخبراء بأن تضم اللجنة الاقتصادية الاقتصاديون والمصرفيون ورجال المال وتضم لجنة الزراعة الزراعيين و تضم لجنة العدل القانونيين وتضم لجنة التعليم المعلمون وأساتذة جامعات ووو … الخ ويتكون البرلمان من هذه اللجان التي تضم المختصين والخبراء بلا حاجة لمحصاصات جهوية وحزبية وأن تنصرف كل الأحزاب في الفترة الانتقالية لتنظيم نفسها استعداداً للمرحلة القادمة لتصبح أحزاباً قوية لا كرتونية هشة .
الانتباهة