عبدالقادر حيدر
ولأولئك الذين يجادلون بأن الطيب صالح تناول الجنس, انما يتناولون الأمر من جانبه السطحي الفج, يفرغون العمل من مضمونه العميق و يحيلونه الي أدب آيروسي لا يهدف الا لمخاطبة الغريزة لا غير! و ما يثير الحيرة أن رائحة الجنس في أب الطيب صالح وارثه كله لم تظهر بصورة يعتد بها الا في عمل روائي واحد هو موسم الهجرة الي الشمال, حتي انه و في ذات العمل لم يصرح بألفاظ ترتبط بالجنس مباشرة الا في مواضع محدودة جداً اما في بقية احداث الرواية لم يأتي الا ايحاءً (وهو ما برع فيه الاديب الهرم الطيب صالح – قدرته علي الإيحاء و التحكم في مخيلة القارئ ).
من أبرز المواقف التي دارت حول الجنس, الحوار بين الجد وود الريس وبت مجذوب وهو حوار بين احدي القواعد من النساء و رجال بلغوا من الكبر عتيا و هي مجرد ونسة و اجترار الذكريات و البطولات في هذا المجال لذكورية المجتمع و غرائزيته (اذ لا يجب أن نتجاوز الواقع الذي يدور فيه الحوار و ملامحه) . و بالرغم من أن الحوار (الونسة) يخوض في امور الجنس كمشهد اساسي لتقديم شخصية ود الريس بتفصيل اعمق و كتمهيد لازم للحبكة التي تقود في احدي تعرجاتها لمشهد موته (اي ود الريس) , الجنس هنا لم يقحم اقحاماً وحتى الكاتب يتعامل معه بأريحية و انفتاح بل بكثير من الحذر قد يصل لدرجة التوجس فهو في كل الحوار يطلق عليه (هذا الشئ) وكان يمكنه أن يسميه الجماع أو المضاجعة بلا عتب عليه فهما ألفاظ استخدمهما كل الفقهاء في كل دروسهم الشفاهية كانت أم المكتوبة بل هم تناولوا ما هو اشد من هذه الالفاظ صراحة فقد تناولوا الاعضاء التناسلية بمسمياتها الحقيقية دون تورية او مواربة و تحدثوا عن كل ما يتعلق بالحياة الجنسية للذكر والانثى بمنتهي الصراحة والوضوح , الا أن أديبنا هنا ولنهجه الواقعي ولصدقيته ولأنه منح الحرية لأبطاله و لم يسع لتقييدهم و توجييهم كتب الأمر كما يحدث في الواقع , و لعل هذا هو مبعث الاستهجان , النفاق الاجتماعي في تناولنا لهذه الامور, الفصام و الازدواجية التي يعانيها الجميع , فما يستهجن هنا يتناوله الأصحاب (المجتمع) بمنتهي الاريحية فيما بينهم, ذكورا واناثا كلاً علي حده حتي اذا ما تحول الامر الي نقاش , تغيرت اللغة و استهجنوا ذات الفعل الذي كانوا يقومون به قبل ثوان معدودة … ما خطه الطيب صالح في هذا المشهد لا يعدوا كونه صورة من الواقع تحدث في كل المجتمعات بذات الكيفية حتي أنه حاول تكييفها لتتماشي مع المبدأ ( النفاقي ) الذي يعرف بالذوق العام .
اما فيما يتعلق بمصطفي سعيد و ما ارتبط به من ممارسات جنسية و خوضه فيها حد الغرق فإن قراءتها بذات الكيفية يعد نوعا من السطحية التي لا تجدر بقارئ حصيف , فالجنس عنده لا يخرج من مثلث (المرأة, المكان, الانتماء) فهو بالنظر لتكوين شخصيته المعقد و المعقد جدا نجده نشأ فاقدا للانتماء و في ذلك شواهد كثيرة لعل أهمها علاقته بإمه و التي يقول فيها (كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة علي الطريق . الأعمال الكاملة ص 48) و ايضا (كان ذلك وداعنا لا دموع ,لا قبل ولا ضوضاء, مخلوقان سارا شطر الطريق معا , ثم سلك كل منهما سبيله . نفس المرجع ص 52) علاوة علي اليتم ,عدم وجود اخوة له, اضافة الي احساسه الذاتي بالحرية المطلقة قطع كثير من وشائج الانتماء لمجتمعه اما علاقته بالمكان (البلد) فقد لخصه في قوله (فكان مثل جبل نصبت خيمتي عنده , وفي الصباح قلعت الأوتاد و اسرجت بعيري . ص 52) أضف الي ذلك كل الصفات المعقدة و الملامح المركبة التي كونت شخصيته و التي تراوحت بين الاستقلالية و الذكاء الي الغرور و العنجهية وصولا الي ما يقارب النرجسية و الماسوشية والسادية, كلها تتوفر في ذات الشخصية بتناقضها العجيب . اذن ما الذي أقحم الجنس في تلك التركيبة المعقدة , هي صدمة الشبق الأولي التي أصابته و هو في حال طفو و عدم استقرار حال وصوله القاهرة عندما احتضنته مسز روبنسون و قبلته قبلة امومية على خده لتبعث فيه احساسا لم يختبره حقق له ذاته بطريقة لم يعهدها من قبل وارتبط ذلك الاحساس بالمكان ليقول (وأحسست كأن القاهرة , ذلك الجبل الكبير الذي حملني اليه بعيري ,امرأة اوروبية . مثل مسز روبنسون تماما , تطوقني ذراعاها … الخ ص 52) , هي اللحظة التي أحس فيها بذاك الإحساس الذي ظل يطارده بحثا عنه طوال حياته وأحداثها , الانتماء لشي ما , احساسه بالمكان الذي فجره فيه ذاك الحضن في ذاك المكان . لم يك الجنس عند مصطفي سعيد شهوة صرخت فسعى لإسكاتها و لا غريزة يشبعها , و لا كانت المرأة عنده مساحة للمجون يقضي وطره منها ثم يلقيها في أقلب مكب للانتحار , كانت عنده (المرأة, الجنس) أرضا ينتمي اليها , كانت الأرض عنده انثي يريدها أن تضمه بذات الحنان الذي ضمته به مسز وبنسون , كلهن كن كذلك , لذا كانت الحرب شعواء بينه وجين مورس , لم يكن الامر مجرد انثي استعصت عليه (فذاك أمر لا يستوجب القتل ) انما كانت عقبة بينه و سعيه للانتماء . صورته كبطل يسعي للانتقام من المحتل ,المستعمر , ايا كانت التسمية , هو شخص سعي للانتماء و يعضد ذلك سعيه لخلق جذور لأبنائه باختياره لأرض يسكنونها و وصيته للراوي بتجنيبهم السفر ما أمكن ذلك .
الشاهد أن فرية تناول الطيب صالح للجنس ليست الا نفاقا اجتماعياً و ترويج لعقلية جوفاء مزيفة و نحن لا نعيب توظيفا كهذا و لا نعيب تناول الجنس و كل من يقول بذلك فهو مكابر اذ لا يمكن بأي حال تجاوز أقوي غريزة في الإنسان (باعتبارها الغريزة التي ترتبط بحفظ نوعه) و لكن يظل الابتذال في تناوله و اقحامه اقحاما بغرض الترويج لكونه مادة جاذبة مستهجنا و ساقطا و يخرج بالأدب من اطاره الي إطار قلة الأدب .