Site icon المجرة برس

قصة قصيرة .. “قناص يرتدي وجه بوذا” .. منتصر منصور

 

(سينشر الزمن ماطوته الخديعة) شكسبير

شِخنا فجأة وصرنا نحكي الحكايا، الكبار يصغون إلينا في صمت شجي، كُنا نلمح إرتعاشات الندم على أهدابهم، يلقون حجارتهم فتصل أعماق النهر ولا تحدث الدوائر، لكن قبضتي مليئة بالأحجار ودوائر النهر مسدودة كذات لم يكتشفها صاحبها..
إمرأة في آخر ربيع عمرها المرعب كأنه ستارة سوداء تلف مسرح حياتها الخالي، كانت (بُوزا) صاحبة المنزل الكبير في الحي، يقال أنها ورثت هذا المنزل الكبير من حصيد ثلاث زيجات رحلوا، ولم يعلم عنهم أحداً عِلةٍ ما، أنثي أقدم من المأسأة وأفتن من الموت على ظهر جواد كوشي جامح، ربما ستبدو وليمة دسمة للشيخوخة لكنها لم تنجب، كنت حين انظر إليها أري الهواء محشوداً بالأرامل، و لهنّ وجه بُوذا وصرخة جارتي أول متعتها حين ركضت خائفة قبل أن يُلجِمها الشبق، لكنها لم تغامر بمقتنيات جسدها سوي بهذا الوجه الواسع، عينان واسعتان محمرتان كشغف كاهن، لها رزانة بلهاء بحكمة بواب يقضي يومه جالساً أمام فتات من التمر والفول السوداني امام مدرسة الحي، كانت تقول-حين تشاغبها النساء بأنها تتزوج كثيراً-“عندما يكون لإمرأة إبن فإنها لا تتزوج”، أشعر أن هناك كلمة مضمرة في هذه الجملة وهي (مِثلي).. لكنها كانت مثل ثعبان تلامس الأرض بكامل جسدها، فما أن تعلم بأن هناك شيئاً يخصها أو فرصة تهتبلها إلا وتجرِّد لها الإهتمام والخِطط لتنالها، ولايعنيها من ذلك أن تتجاوز مستحقيها، لها ذاكرة حفيّة بالأمكنة رغم أنها لم تغادر الحي قط، من خلال منزلها المؤجر للأغراب كانت تصنع لهم الشاي والقهوة وتُحقق سفرها الوهمي من الإصغاء لتري العالم من خلال حكاويهم، مثل شجرة لاتعي وِجودها العضوي في العالم، لكنها خفية بمملكتها الصغيرة داخل تلك الغرفة، التي تحشد داخلها كل ماتشتهي ويمكنها ان تتعري وتنام داخل جوف السكون، شباب الحي يسمونها بوذا لإنعزالها، والاطفال بُوزا، لان فمها يمتد كفوهة بركان وينفرج كالأذن المارة من قناة سمعية طويلة..
في صغرها كانت تلعب مع قريناتها، وتبدو كمن تصنع الفاصوليا من الطين في خبل عقلها، والنار من الماء، تعلقت بفتي جميل المحيا، لكنه عندما أسرّ لوالديه برغبته في الزواج منها بدا وكأنه أخبرهما عن لعنة مفادها أنه وجد تؤامه السيئ الحظ في الحي الغارق باليتم، غادر بعدها بإسبوع الحياة وغرق بهم المركب حين ذهبت بهم لزيارة الشيخ لمباركة الزيجة، خرجت من قلب الماء بثوب عنقاء، أرملة ومنزل وميراث، وبعدها كانت تحسب حياتها بمعالق القهوة حين تجلس وتقول:
“تزوجت الأول وتصب ملعقة، والثاني وهكذا…..”
كنت أنظر لصبية يلعبون، ستارة الحياة لم تسدل في جوف الدار التي خططوا علي ظهر حائطها المرمي، من الشباك العالي كانت تطل بوزا متوعدة حين ترز الكرة قفا دارها
عندما مات زوجها الثاني لم تشأ ان تمسّرِح رحيلهُ، كانت تشتهي أن تُشعِل سيجارة داخل غرفتها لتعصي مزاجها، فتحت شباكها العالي ونادت علي (مُرسال)، كنا نحتار في هذا الصبي المدمن الذي يتمطي جوار حائطها وأحياناً يتكفّل بمهمة حارس المرمي، لكنني كنت أحتار في كيفية صرفه على الشمّ، يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة لكنه يلوك قماشته، ويعتني بشجرة الجوافة لدي بوزا، في يوم وجدتَهُ مرميا تحت الشمس، نظّفتهُ وعطرته بباقي حنوط زوجها الثاني، أطعمته، فصار يعرف كيف يقلي البن، واحيانا يساعدها في تمشيط شعرها المائج..
كان شيخ الحي لايفلتر حديثه، لكن الألسن تنقل ترجمة مخففه له، نقل لها الوشاة ماتيسر من صنوف الحذر،. في شأن علاقتها به، وربما يصادر منزلها بِعَصبة قرابة إخترعها في باله، صوت نغمات الفندك لطيفة كقيلولة تستأذن، دعتهُ للقهوة التي سحقها مرسال أولاً وغلتها بحذاقة وتعطّرت في متكأها، كان العمدة أعزلاً إلا من جسده وذاكرته، تبسطت معه، فأدمن قهواها وتزوجها ثالث يوم، وسحقه مرسال صبيها رابع يوم وتبول عليه.. حينها كانت تبتسم وتأمره أن يُقبِّل كف مُرسال المدودة فوق راسه
كان قلبه يقول له “صافح تلك الأصابع فالحياة ممكنة لكن عليك أن تغادر الغرفة العالية قبل أن تلعق دمك”..
في اليوم الخامس سقط العمدة من النافذة وسحق نفسه جوار الصبية الذين ركضوا وتركوا كرتهم راقدة جوار المرمي والجسد المتغضن..
حكاية الزوج الثالث إختزلها البعض في فخذ إمراة وأير صبي، لكنها لم تُهدم مثل تلك الدار الثالثة التي تقاسمتها بوزا مع إبن الشيخ وملكتها بعد أن باع باقيها لها فأصبح صاحبها مرسال المراهق، كنت أري اناس الحي ضعيفين ويضيقون بكونهم قليلين بوجود بشر يقاسمونهم الدهشة والفرح المباغت والحزن الذي يكسر العظم..
هناك بصيص ينتهك الحياة في العتمة والفراغ، معاناة اللآمعني كوجه نحيل شاحب يرافق صاحبه في مرآيا الطريق، كان الحي يتناقص بالموت والهجرة، حتي الصبية يلعبون ناقصين جوار الحائط، كلما إختفي الإحساس بالجدوي، إذدهر السوق بالأغراب، ظل المكان هو القشرة والساق لكن الموت هو الثمرة التي تنضج بمن تغمده الطمع، كانت تناديهم من فوق نافذتها ويتزوجون راضيين بمن تخطب لهم، وتحمِل دائماً في لسانها تشكيك دائم بالحب لتفضح محتويات الجسد البشري من الرغائب..
هناك نعاس متراكم يزايل الرغبة التي لم ينجح في إيقاظها مرسال، كمن يقشر البصلة ويبحث عن اللب، عن الحرية الفائضة بحيوية الجسد الذي يحلم بمدينة نائية حتي إن وجدها فقيرة فهي لم تخدعه لأن ترحيبها لا يتعلق برحلته بين العوالم، نظر لها مرسال وهي راقدة على وجهها ثم ضمر أمراً وغادر للسوق للبحث عن مزيداً من ضحاياها..
لايمكنك أن تشكو من الهدوء والعزلة لكن على النقيض، يمكنك أن تمتعض من الفوضي، قامت متثاقلة لتقمع ضجة الصبية تحت نافذتها، لم يروعهم التناقص حين أصبحوا ثلاثة، صارت تكذِّب لأنها لم تستطيع أن تقلِع عن عادتها القديمة، الأغراب النائمين في مخيلتها كزوجة طيبة تحتفي بقيلولة بعلها وضعف الجسد بالتقادم، بدأ الجدار خاليا كساحة إعدام، رغم انهم قذفوها بالطوب وأضطرّت لإغلاق النافذة. ثاني يوم إنضم لهم صبية الحي الآخر وماجوا تحت حائطها، قال الرجل العجوز الذي مد لي يده لأعبر به الشارع
:” هؤلا الاطفال يدافعون عن كسل ارواحنا في حفر حياة تليق بملامحنا”
كنت أشعر بالخجل حد البكاء، فلم أغنِي لكني كنت سأصبح صادقاً فجأة بأذن جارتي التي لمّحت لي بالحب فجبُنت من مبادلتها نفس الشعور وتزوجها أحد أغراب بوزا..ولم تلد منه مثلها..
صِرت أمنحها إمتيازاً غيبياً كحبيبة لم أنالها، حينما تطل في الصباحات وأرتبك لرؤيتها، أظنها أسكنت شبح إبتسامتها خرابات بوزا فصارت تتجهم في وجهي..

..هناك إمرأة غامضة طيبة وحانية كانت تطل في الصباحات من السوق تحمل بذراعيها الطويلتين السلال لأطفال القرية تغني لهم ويرقصون حولها جوار الجدار، لم يسألهم شيوخ القرية ونسائها المنهمكين لشئونهم عن سر هذه الأنثي الإ في اليوم الذي سقطت فيه بوزا من النافذة علي طرف الحائط وزعموا انها قضت نحبها لكننا لم نجد الجثة ابداً، أجتمعوا في الخارج كلهم صامتين ويتأملون شغب الصبية، غابت المراة وأختفت هي الأخري..نمت خائفاً ولم أحلم بشيء يومها.
في الصباح قال لي الرجل العجوز الذي يحمل أسماءاً مُختلفة حين سألته عن سرها وهو جالس حزين:
هي رسولة الموت الذي يختطف الناس..
وتسائل” كيف أتت على هذه الشاكلة واين ذهبت بوزا؟”
كان وجهه مرعوباً فشاركته رعبهُ حين تذكرها، أخبرني أنها غافلته يوما في بيت أخيه الذي رحل عن الدنيا بعد زيارتها
إستمر شغبهم لمدة أربعين يوماً، ينتظرون أن تنفتح النافذة، إختفي مرسال ولم يظهر داخل المنزل بخفية فلم يتكهن أحدٌ بذهابه بعيداً، كنت أحتسي القهوة جوار الجدار الذي أصبح مزاراً..
في يوم ما صاح احد الفتية: النافذة إنفتحت..
تهيأ الصبية بحجارتهم التي تعذبت بسوادها المُضئ كفحم أسود باطن الارض داخل أقاصي وحشته، أطل شبح وجهٌ رمادي، صاح الجمع:
بوزا بوزا..الملعونة
بدت قلوبهم خائفة كجسد مدنس محكومٌ عليه بالرجم، حتي أوشكوا أن يشقوا قبور أجسادهم ليختفوا فيها..
قال الرجل العجوز لهم:
“طوبي لمن أوغلوا…هم العائدون بحياة ترقي لقيامتهم فهي حياة تأتي من فائض الحياة لا من فائض الموت”

كان الصبية يوغلون في قذف حجارتهم الخفيفة للنافذة ويغنون أغاني المرأة الغامضة
رايت شيئاً يلمع في النافذة، فصحت فيهم:
أحذروا..
لكنهم لم يهتموا..
كان هناك قناص يرتدي وجه بوذا فأمطرهم باللعنات

Exit mobile version