الزميلة ندى محمد احمد دخلت في الصحيفة يوم الأربعاء الماضي وهي لا تكاد ترى جراء اغلاق الطرق، حيث اخذ سائق الامجاد يحتك بالمتاريس خاصة في جبرة، وقد استغرق ساعتين ونصف الساعة ليصل من جبرة الى الخرطوم شرق .
يوم السبت تقول ندى: اقيمت المتاريس في شارع المؤسسة والشعبية بحري، فعندما وصلت الحافلة للاستوب بعد سوق قشرة، كانت المتاريس عبارة إطارات مشتعلة. وعندما حاول السائق تجاوز الترس رشق صبية الترس الحافلة بالحجارة. حتى اننا خفضنا رؤوسنا داخل الحافلة حتى لا تصيبنا الحجارة. واضطر السائق مثله مثل بقية السيارات للمرور داخل الاحياء، مما جعل بعض الركاب لا يصلون للمحطات التي يقصدونها، ونزل الجميع في محطات غير محطاتهم وهم منزعجون.
الترس عنده فهم
الدكتورة عزيزة كرار لم تمنعها ثوريتها العميقة من التبرم بشدة من المتاريس، فقالت لـ (الإنتباهة): (اولاد اركويت قفلوا شارع امتداد النخيل باللساتك وحرقوها، وبقت العربات ماشة وجاية في مسار واحد، والماشين ينتتظروا الجايين يمروا والجايين ينتظروا الماشين يمروا، ومافي زول عايز ينزل يطفي النار ويفتح الشارع، لانو الشفع الزفت ديل واقفين بكل قلة ادب وشايلين عصايات)، وتضيف عزيزة قائلة: (الترس عندو فهم وعندو ثقافة، ما بتترس بيهو حياة الناس وتوقف بيهو مشاغلها.. في عيد رمضان بعد فض الاعتصام في سيدة ماتت لأنه جاها نزيف وما قدروا يصلوا بيها المستشفى بدري بسبب الترس! منتهى القسوة واللاوعي)، وتضرب عزيزة مثلاً بثورة (٢٥) يناير في مصر، قائلة: (كل المعتصمين كانوا في ميدان التحرير، وترسوا المنطقة المحيطة بالميدان زي ما حصل في القيادة، لكن مافي بلد في الدنيا يقوم أبناؤها بتتريس شوارع فرعية أو رئيسة الا في السودان). وتضيف محدثتي قائلة: (الناس العايزة تقعد الناس في بيوتها احتجاجاً على وضع بتعمل عصيان مدني).
جهات خلف الترس
ويرى عصام الدين الخير وكيل شركة التأمين الإسلامية ان الترس مضاره أكثر من نفعه، وهناك جهة سياسية تتمترس خلف الترس وتحركه كيفما شاءت لمصلحتها, وينتقد عصام استخدام الأطفال والشباب، بل استغلالهم بدفع مبلغ مالي لهم حتى ينفذوا اجندة ليست لهم فيها ناقة ولا جمل، ويضيف قائلاً: (ورأيت بعيني ركشات تؤجر لجلب اللساتك والبنزين وغالباً ما يكون ذلك بالليل.. واضرار الترس الأكثر تقع على عاتق مستخدم الطريق ممن يريد الذهاب إلى عمله أو يريد التحرك لتأمين معاش اهله، اما المرضى فحدث ولا حرج خاصة عربات الإسعاف، وقد يتسبب ذلك في موت مريض محتاج للسرعة في الحركة للدخول في أقرب مستشفى لإنقاذ حياته .
من ناحية دينية
ويقول المهندس عثمان حيدر ان مفهوم حق الطريق يعرفه بأنّه يكون في كافة الممرات العمومية التي يسلكها الناس من شوارع وأزقة وغيرها، وهو مرفق عام لجميع الناس ومُلك للجميع، فالكل يستخدمه، ولا أحد يستطيع أن يستغني عنه، كما لا يجوز الجلوس فيه وعرقلة حركة الناس ومصالحهم، فاحترام الطريق والمحافظة عليه من الأخلاق العالية التي جاء بها الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [السلسلة الصحيحة]، فكمال الأخلاق من كمال الدين ونقصها من نقص الدين. وعَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والجلوسَ في الطرقاتِ، فقالوا: ما لنا بدٌ، إنما هي مجالسنا نتحدثُ فيها. قال: فإذا أبيتم إلا المجالسَ، فأعطوا الطريقَ حقَّها. قالوا: وما حقُّ الطريقِ؟ قال: غضُّ البصرِ وكفُّ الأذى وردُّ السلامِ وأمرٌ بالمعروفِ ونهيٌ عن المنكر).
مسؤولية الحكومة
القيادي بلجان المقاومة بالحاج يوسف الناطق الرسمي باسم التيار المناهض لكيان الشمال زهير الدالي، استنطقته (الإنتباهة) فتحدث مبرراً فكرة الترس باعتبارها متعارفاً عليها بأنها كانت وسيلة من وسائل النضال، وصممت لحماية الثوار من سيارات القوات النظامية إبان الثورة، وشباب الثورة يعتقدون أنها فكرة مفصلية تصلح لكل زمان ومكان، وأنها ستسقط الحكومة. ويقر زهير بأنها أخيراً أعاقت حياة الناس، رغم أن الهدف منها تقويم الحكومة المتباطئة في تنفيذ أهداف الثورة، ومن ثم لا بد من ابتكار وسيلة أخرى للضغط على الحكومة، ولهذا أصبح الشباب يسمحون بمرور الإسعاف. ويضيف زهير في حديثه أن الترس مسؤولية الحكومة أولاً وأخيراً، لأن الوضع الاقتصادي الصعب سيضع مزيداً من المتاريس في الشوارع
قلت لزهير: ولكن من يقفون في التروس الآن (شفع) لا يعرفون متى يزيلون الترس لأنهم لا يدركون المخاطر التي ستنتج عنه، ويجيب زهير بأن المتاريس تنفذ باتفاق تام بين لجان المقاومة وفي فترة زمنية محددة يتم رفعه، ولكن يمكن بعد رفعه يأتي صبية ويقومون بتتريس الشارع، وقال: (ولا يسعنا هنا إلا مخاطبة أولياء الأمور بمنع أولادهم من إغلاق الطرق بعد فك الترس).
جمهورية بري
وتعتبر ضاحية بري الأكثر (ثورية)، لدرجة أن البعض سماها (جمهورية بري)، وشبابها هم الأكثر مقاومة والأكثر فاعلية في وضع المتاريس، ومن لجان المقاومة ببري تحدث لـ (الإنتباهة) الصادق محمد الشيخ وهو أيضاً عضو في منسقية لجان الكلاكلة. ويقول الصادق: (المتاريس فعلاً بدأت بها الثورة وأصبحت رمزاً من رموزها، ولكن فكرة الترس الحالية (ما صاح) وقد وقعت مشكلات كثيرة بسبب المتاريس، فهناك عربات إسعاف وحالات طوارئ)، ويرى الصادق أنه يمكن حرق اللساتك في التلتوار، ولكن في (نص الشارع) فهذا غير مقبول.
متاريس (عميقة)
وبخصوص متاريس بري يقول الصادق إنهم اتفقوا على ساعات معينة من اليوم لوضع المتاريس، بإغلاق طرق معينة في شوارع رئيسة في رويال كير والمعرض، وتم تحديد شوارع فرعية بديلة لأنهم أيضاً مواطنون والطرق يستخدمها أهلهم، ويقر الصادق بأن الترس تسبب في مشكلات كبيرة، ولكن تم وضع أعضاء من لجان المقاومة لتمرير حالات الطوارئ. ولا يستبعد الصادق أن تقوم الدولة العميقة أو الاحزاب باستغلال المتاريس لتنفيذ أجندتها ضد الثورة .
أحسن الخيارات السيئة
عبد الفتاح الكنزي عضو تجمع المحامين السودانيين، تناول مسألة الحريات عبر القوانين فقال لـ (الانتباهة) إن الحريات مكفولة بموجب القانون الوطني والدولي منذ أول اتفاقية نص عليها الإعلان الفرنسي سنة 1789م، وبعدها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1946م والعهدان الدوليان للحقوق سنة 1966م، العهدان دخلا حيز التنفيذ سنة 1977م، والمطالبة بالحقوق مكفولة بموجب القوانين السودانية المختلفة، ومن ضمنها الوثيقة الدستورية، وعلى هذا الاساس تطالب بحقوقك بوسيلة معينة مشروعة بعد زوال النظام القمعي السابق. ويقول الكنزي: (زمان كنا لم نطلع نكورك في الشارع الكجر يقبضونا ويفتحوا لينا مواد كيدية (69 شغب)، ويضربونا بالسياط وغيرها، مما ينافي القانون، وحالياً عندما تم الإعلان عن موكب جرد الحساب يوم 9 أغسطس كنا منظمين وطالعين وفقاً للقانون، وبعد قليل تم ضرب المتظاهرين بالبمبان! حكومة جاءت بالترس وبالثورة رجعت لينا الذكريات القديمة.. يعني دي حكومتنا). ورغم اعترافه بأن المتاريس فيها ضرر لكنهم يختارون أفضل الشرين، ويزيد قائلاً: (نريد تطبيق مطالب الثورة على أرض الواقع وليس عبارات لفظية وتحفيزية يُقصد بها الهاء الشعب عن مطالبه مثل (سنعبر وسننتصر)، وحالياً نريد بناءً وأفعالاً حقيقية، وننتهز السانحة لنسأل حمدوك الى اين يريد أن يعبر بنا؟ لأنه لم يثبت ذلك بالعمل). وانتقد الكنزي وصف وزير الأوقاف المتظاهرين بانهم عطالى وصعاليك فيرد بقوله: (ما هم بعطالى ولا صعاليك.. ديل الناس الجابوك للحكم! وحتى الآن التصعيد الشامل لم يتم لأن لجان المقاومة تخشى من تربص الأحزاب)، ويضيف محدثي قائلاً: (مفرح قال ناس الواتساب والفيس ما بعلموا حاجة، ونسي أن الثورة بدأت بالكيبورد).
والترس كان وسيلة من وسائل الضغط المجتمعي، وهو عادة متخلفة للتعبير عن الحقوق والواجبات، حسب الخبير الأمني والاستراتيجي الاستاذ حسن دنقس، وهذا يقودنا لأمر مهم هو أن المطالب المجتمعية تعبر عنها البرلمانات والمجالس التشريعية، وإذا كان هناك أي خلل يعبر عنه النائب البرلماني، والمجالس التشريعية الأصل أن النائب يعبر عن مجتمعه ويناقش قضاياه ويوصل صوته لاعلى هرم في الدولة، ولكن في ظل الظروف الحالية الممثلة في غياب المجالس التشريعية وايلولة سلطاتها لمجلسي السيادة والوزراء، فإن ذلك خلق فجوة كبيرة بين الشارع وهرم الدولة، ووزراء مكلفون لا يستطيعون ان يعبروا عن مصير شعب. وحتى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية للحكومة نفسها غير متفقة على هذه الوسيلة، وستسبب شرخاً كبيراً لأن هنالك أحزاباً تتبنى وأخرى مناهضة لأنها وسيلة غير مجدية بعد الثورة. ولكن ما هو البديل؟ يجيب دنقس بأن البديل هو الحوار، ولكن هل لجان المقاومة ستحاور الحرية والتغيير؟ ولا توجد قاعدة للانطلاق منها لذلك المواطن يتضرر منها وهذا يدخلنا في القانون. وهل المتاريس هي الوسيلة الأفضل لكل من يريد أن يعبر عن رفضه؟ وهذا يدخلنا في مقارنة مهمة مع القوات النظامية، ففي بعض الأحيان يغلقون الكباري وهذا يضر أيضاً بمصلحة المواطن، والقوات النظامية تقول إن ذلك حفظ للأمن القومي، والمواطن يرى أنه لا يملك وسيلة أخرى لتوصيل صوته.
من المحرر:
هناك أسئلة تحتاج لإجابات: هل المتاريس فعلاً عمل مؤسس ومنظم وتتم وفقاً لرؤية وتخطيط، أم أن جلها يقوم عبر الشائعات؟ وهل الذين يقفون خلف المتاريس كلهم أصحاب قضية، أم أصحاب أجندات خاصة، وأن أدوات التنفيذ هي الأطفال؟ كما أن معظم المتضررين من الوضع الاقتصادي الضاغط يقبعون في بيوتهم لأنهم لا يملكون (مصاريف المرقة)، ومن ثم يجب على لجان المقاومة البحث عن طريقة أكثر موضوعية من المتاريس، لأن المتضرر منها ليس الحكومة بل المواطنون الذين يعيشون في رحم المعاناة
الانتباهة