تقرفصنا سبعة أفواه مالحة، متيبسة وعاجزة عن صياغة السؤال الكالح، نرقب بتوجس الوجه الذي نألف وهو يتوارى شيئاً فشيئاً خلف أستار الغياب.
سبت لم يكن يفوقنا فقط إسمراراً وطولاً، لكنه أيضاً يملك الخاصية الدافئة التي تجعل جلوسنا معاً نوعاً من الإحتفالية الجيدة الحبك، أو قل يملك ما يمكن تسميته باللبنة التي تجعل بناءنا أكثر توازناً وجمالا،ً هو الذي يعطينا إشارة بدء اللعب بالكرة، يتحول إلى زراعين طويلين وخشنين للتفريق بيننا متى ما ملنا للخشونة وإستعملنا أيادينا الصغيرة لحسم بعض المسائل وإبداء صوابية مواقفنا، هو من تنام الكرة هانئة تحت سريره دون أن نحاول الإعتراض، لا أذكر إننا تحلقنا يوماً حول (صحن البوش) دون أن يكون سبت هو المازج الأساسي لمحتوياته، ربما يكون قد دس في جوف الصحن بضع ريالات زائدة دون أن نعلم، وهو الذي يستأثر بحب عثمان صاحب البقالة لأنه الوحيد بيننا الذي اعتاد غسل الإناء بعد أن يؤدي مهمة إشباعنا ونقلنا من حالة الجوع إلى التخمة المتيقظة لنثر الحديث وإطلاق النكات وتحريك الارجل بسعادة وبشم
ليس من الصعب تدارك الإختلاف السحيق الذي نبدو عليه حين يغيب سبت عن مشهدنا، فصناعة المشاجرة تكون أمراً سهلاً وميسوراً ولا يحتاج إلى الكثير من الوقود والعناء.
لاأدري كيف استطعنا رفع الإزار ثم الصعود لقمة الفراق تلك، كيف تكاتفنا يداً بيد، موقنين أن الوجه المتلاشي لسبت سيختفي يوماً، أننا سنطويه بهذه الحصافة اللزجة لنضعه تميمة للذكرى تقبع في قاع الجمجمة، ووراء أستار اللقاء المعتاد كنا ننبشه بعنف في عيون بعضنا البعض، نراه بذات الطزاجة وهو يتقافز كحيوان إستوائي في غابته البديعة، لا ندري كيف استطاع ذلك الصبي ان يقسم قلبه علينا بهذا الإنصاف وهذه الوداعة! فالكل كان يوقن بأنه الصديق الوحيد لسبت وما عداه لا يمثل سوى خلفية لما في لوحة الصداقة الأنيقة. .
وللحقيقة كثيراً ما كنت أتمنى ان يأتي سبت يوماً ما ليدخل يده الخشنة في جوفي ليخرج بقاياه الملتصقة هناك ويعود مرة أخرى من حيث أتى ولا يترك لنا بقاياه النابضة تحت شجرة النيم، أو الضاحكة في ملعب الكرة، أو حتى تلك المتيبسة على مقود دراجتي الهوائية، لكنه كان يضحك ضحكته الكاملة ملء ذاكرتي، يدحرجني بعنف نحو بعض التفاصيل الغامضة فيجلوها حتى أكاد أن اتلمسها بيدي، من تلك التفاصيل ماحدث ذات ظهيرة عندما ذهبنا لقطف التمر هندي، كان يعتلي الشجرة ويقذفنا بالثمر وكنا نحن الكائنات الارضية التي تقذفه بالغيرة! أذكر أن الطفل الذي كنته يوم ذاك قد بدأ واضحاً من حديثه إبداء رغبته المتأججة في إعتلاء الشجرة وبما أني كنت ضئيلاً سمجاً و(غتيتاً ) فقد طرح سبت أمامي بعض الخيارات التي لا أذكرها الآن ولكني فرحت أيما فرح بالخيار الأخير، صعدت على ظهره لأمد يدي نحو الشجرة ثم أعيدها فارغة تماماً ومع ذلك ظللت ممتطياً ماهراً، كانت ضحكاته ترتفع لأذني وهو يتأرجح بسعادة تحت ثقلي قائلا بصوته العذب: (خلاص فرحان كدة يالا ورينا شطارتك) يومها علمت أنني لم أصعد على ظهر سبت بل صعدت على قلبه ً . جهدا باذخا لاسعادنا .
سبت …. عندما رفعت يدي لوداعك لم أقصد أن إغتالك بهذه البساطة وأنت تعلم تمام العلم بأنك لست من الذين يمكن إغتيال ذكراهم بمجرد أن نرفع ايادينا بالوداع. لم تكن سوى حركة لا إرادية نؤسس بها للذكريات القادمة عندما تتعطل لغة الكلام ويجف الدمع عن ملح الغياب نرفع أيادينا ملوحين كطواحين الهواء ودولايب السواقي، نترك الصمت يتحدث بكل لغاته أو يضج بالأنين فكلاهما سواء. أتتذكرأن طارق وضع أصبعين على عينه ورغم ذلك أنهمر دمعه على القميص؟ أن صلاح مازج بين الضحك والبكاء في سمفونية هي أليق بالنساء من صبي يتأبط عصا ويرتدي شارباً في طور التكوين؟ أن عثما ن صاحب الدكان إنخرط في هش الأغنام من أمام متجره والكل يعلم أنه كان يهش فتات الوجعة.
كان وجه سبت منبسطاُ كصحراء قاحلة وهو يطل علينا من بين أثاثهم البسيط المرصوف على ظهر اللوري، أما بقية أسرته فقد كانت تحجبنا عنهم اللآفتة القماشية البيضاء والتي كتب عليها بخط أنيق برنامح العودة الطوعية لدولة جنوب السودان.))
سهل الطيب.