السحاب المتزاحم يراودك، ترتدي نظارتك المقعرة بتمهل عجوز اجتاز الثمانين، تنظر داخل كل غيمة، ترى مطراً يكبر، تتذكر تلك العجوز التي ما يئست طرق باب عيادتك، حلماً” وليس طمعاً” بجنين يدغدغ وحشتها، الحوامل كما الغيمات، كلهن يُصَبن بالهلع حين المخاض، النساء تصرخ، الغيوم ترعد، هكذا قلت سراً، نظرت للشخص الذي فضحه صوت شخيره، باستغراب؛ قلت له بصوت عالٍ لأنه لن يسمعك : ” كيف لك أن تنام في جو كهذا ؟!”
وأنت تعلو بذقنك قليلاً، ترى بياضاً يشبه ضحكتها والزفاف الذي كانت ترتديه، تطلب منك بخجل أن تجعل اللقطة القادمة خاصة جداً، بنسخة واحدة، لا تنسَ أن تزيد من الاضاءة وتقلل حسبما تقتضي ملامحها، كان أنفها أفطس قليلا ولكنه لم يعجبها، شفتيها مملوءة ووجهها يشبه حبة المانجو، وهي تريد أن تكون حبة كرز، بشفاه رفيعة و ورديّة، وأنت تُقلب حديثها في قلبك، مرّت ابتسامة خبيثة على شفتيك، وتحسست جيب قميصك الصدري، مطمئنا على أن صورتها بأنفها الأفطس مازالت معك.
بين سحابتين طويلتين، ترى طفل صغير، عائد من مدرسته، على ظهره حقيبة ملساء، بلون بنيّ داكن، ويرتدي رداء أزرق، بحذاء ابيض ناصع، يسبقه حجر صغير بخطوة، كأنه يشاركه فرحته، وما لبث أن دخل للبيت، حتى سمع الجيران صوته وهو يخبر أمه عنك، وكيف أشدت به وبمستواه تحديداً في الاختبار الأخير، فتنهال أمه عليك بالدعوات، وأنتَ لا زلت تسمع وترى.
ثمة غيمات يتشاركن الحديث همساً، ويتبعنه بضحكات خجولة، تراءت لك من بينهن خلسة، عروس تجلس في كامل زينتها، تنتظر حصاناً أبيضاً يقودها لك، كانت حبيبتك ذاتها، تلك التي تركتك ورحلت، ولم ترحل شروخها عن روحك، حبيبتك التي أكملت الوعود بلسانها، وخانت قلبك عند أول مشهد، تكرفسَ وجهك، نزعتَ النظارة عن عينيك، ولسانك يلهج بإسمها، يدك في جيبك تفتش عن منديل، لتكف الدمع عن خديك، يدٌ ناعمة تستقر بكتفك، رعشة عارمة تصيبك, تلتفت ناحيتها, ولا تعيّ من تكون, تُخبرك بميعاد الهبوط , فالرحلة على مشارف الانتهاء, تربط جأشك , وتتحسس عصاك قربكَ, تحزم صبرك آملاً في طبيبٍ معجزة, يُرَد لك بصرك على يده.
708