بوسامة الفتى الثلاثيني كان يجلس بطمأنينة بين كومة الجرائد والموبايل الحديث الذي كان يسيل منه خيطاً ناعماً من الموسيقى الهادئة، تشير بوضوح للذائقة السليمة التي يتميز بها صاحبه . كان يدفن عينيه شبه المغمضتين لتصفح الجريدة، ثم يرفعهما تارة أخرى لتصفح وجوه الواقفين أمام صيدلية الحوادث. أذكر أنني كنت أسقط الخطى ليلاً من الطابق الثالث (الجناح الخاص)، إلى الطابق الأرضي قسم الحوادث، لإنخرط تلقائياً في مغازلة الممرضات، ومماحكة الممرضين الذين قضيت بينهم زهاء الشهر والنصف وصرت أعرفهم للحد البعيد . أذكر أن أمي الحبيبة كانت طريحة الفراش في المستشفى العام قبل عروجها لأسباب عديدة للغرفة المتوحدة في الجناح الخاص، حيث صارت تخاطبني مرة وتخاطب الحائط طيلة الوقت بعد أن إقتلعناها بقوة المال من رفيقاتها السابقات في العنبر العام، لنعيد غرسها في الغرفة المنفردة . أذكر اننا في العنبر العام، كنّا نحشو المعدة من مختلف أنواع أعمدة الطعام، ولاندري بعد ذلك من أين ومن هؤلاء الأشخاص الذين غسلوا الأيدي ثم جلسوا للأكل معنا، من الذي نظف مريضك أو إمتطي فاتورة الدواء التي تخصك، من منهم أطعم ضيوفك؟ فكل التفاصيل كانت تتسلسل بمرونة فائقة دون أن تلحظها . أذكر أن إمرأة مريضة وطيبة قد قالت لي يوماً ( ياولدي إني أرى الموت يحلق فوق أم صديقك فألزمه )! وهذا ماحدث فعلا،ً فقد أرسلناها برفق إلى حافة القبر بعد أربعة ساعات فقط بعد أن نلنا نصيبنا كاملاً من كعكة البكاء الممطوط والغليظ. أذكر أني كنت قد تعلمت الكثير جداً من فنون الإغاظة، حتى أن ممرضة ما قد شكتني لأمي حين قالت: (شوفي ياحاجة ولدك دا طوالي بقول لي مها القصارية والله الاسم دا لو مشى فيني تاني ما يخش المستشفى لو كسر رقبتو.) فما كان من أمي إلأ أن قالت لها مواسية :”والله يابتي الولد جنو مكاواة انتي غايتو يامها القصارية اعزريهو” فما كان من الممرضة إلا أن أدركت بأن اللقب قد غشيها تماماً. أذكر أن التوأم قسمة وقسيمة كنَّ قد آلين على أنفسهن أن يغسلن كومة ملابسنا، ويغضبن جداً عندما نحاول إثنائهن عن آداء تلك المهمة . أذكر أن أمي كانت حريصة ومحرضة ألا يعرف التوأم بأننا كنا نقوم سراً بدفع منصرفات العلاج لأختهن المريضة، حيث كنا نتفنن في الكذب عليهن بأن المستشفى حكومي ومجاني وكذلك العلاج . أذكر بأن الشاب الوسيم الذي كان يجلس في بهو الحوادث ليلاً، كان يتبادل مقعده مع شيخ آخر في اليوم التالي. أذكر أن ذلك الشيخ كان يفعل مايفعله الشاب، حيث ينظر في الكتاب الذي يحمله قليلاً وينظر في شباك الصيدلية كثيراً. أذكر أن الفتى والشيخ هما أبأ وإبناً، كانا فقيران يعملان بجهد خلف الحصان الذي يملكانه، وقد تطور العمل إلى بقالة صغيرة ثم كبيرة ثم تجارة مزدهرة، وما زالا يتذكران بحسرة أن الحاجة الطيبة توفيت قبل عشرة أعوام في هذا البهو حين عجزا عن دفع فاتورة الدواء. أذكر أن موظفي الصيدلية كانا يرفعان اليد بحزم كإشارة ساطعة بأن ثمة شخص لا يستطيع دفع فاتورة الدواء.