“علقة منتصر منصور المخلَّقة التي ولدت للتو من رحم المطابع حرفاً سويا “
عبدالقادر حيدر
دوما ما تهيبت التعليق علي مؤلف ما، كيان كتابي في ظاهره كلتة حروف ، ولكن هل الأمر كذلك؟ في الحقية ان مجموع هذه الحروف في جوهرها تشكل انسان بكامل هيبة وقدسية انفعالاته وتصوره للحياة، بانتصاراته وهزائمه، بمجموع خبراته المسبقة، بمشاعره وأحاسيسه المندفعة صوب التعبير، تلك هي اللوحة الحقيقة التي لكي تراها يجب ان تحفر اسفل كل حرف وأعلاه حتي لا تخدش حبا هنا او غبنا هناك، حتي لا تدوس علي نبضة قلب خلف حرف العلة ينتظر ان تطبطب عليه، او تترك شوقا يعاني الوحدة. لذا فان اللوحة لا نهائية تفرض لا نهائية المسئولية وهنا علة التهيب. وعندما تكون الكتابة لمنتصر منصور فان مجرد محاولة ابداء الملاحظة ينقلك الي خانة التهور، فعندما تسلمت مسودة “الرحلة انثي” بيمناي كنت أعي اني مقبل مغامرة كبري، بتشويقها وانفعالاتها، بدفقات الادرينالين اللامتناهية، فهي رحلة انثي ، الرحلة معهن دوما محفوفة بالحزن الجليل، السعادات المنقوصة، والوجل اللامنقطع. وضعتها بجلال في جغرافية تفرض علي ان أراها كلما التفت، كلما ممدت لها يدا ارتعشت مخيلتي فعدت الي وضع السكون، ردحا من الزمن لم أجد فيني الجرأة الكافية لافتضاض صفحتها الأولي. حتي قررت، اغتسلت وتعطرت، ارتديت أجمل خيالاتي، و شرعت في القراءة، واعدت الكرة بذات الطقوس لتاتي المتعة مضاعفة.
“قلبي فارغ الآن، بالغ الخفة والرهافه، يكاد نبضي يزحف، الصدي بطئ، الخطي واسعة الخفقان، الصمت مسجى مِن حوليً، كأني لست من ماء وطين،عنصر آخرلاينتمي للحيوان ولا الجماد، يرتابني الظل، يمشي خلفي، أمامي فحوي طريق، خلايا رمل ينمو، حجرٌ يتبختر على الحافة، يجلس على عشب ويجمع أطراف يديه كحاكي عجوز، تستجدي ذراته أسطورة ، زلة الارض بالاهتزاز، المساء بِكرٌ لاحرث له في باطن الاخيلة، ثوب الليل العاري يتدلي علي كتفيه ويتغنج” عند القراءة الأولي تغرق مباشرة في جيشان المشاعر والانفعالات المتدفقة مع تيار اللغة المبهر، ولا يمكنك بأي حال من الأحوال تفادي ملاحظة السمات المشتركة لكتابة منتصر منصور الابداعية وقصيدة النثر من حيث العديد من الصفات وعلي رأسها التعبير القوي عن انفعالات لحظة الكتابة. الرحلة انثي تمرد جلي علي قوالب قديمة” او خروج علي قوانيها” التي عجزت عن استيعاب – او التعبير عن – حالة الكاتب الآنية و التي تجاوزت الصور التقليدية للتتجلي تمردات الكاتب في تطويع اللغة العصية في استنباط صور قادرة علي حمل المعني و اصوير الاحساس بذات القوة وعلي ذات الدرجة ولنا ان نتأمل المقطع التالي …
“تعلمين أنني أنفخُ على قلبي، رئتي يثقبها أُوكسجين أنفاسك، أتحد مع جزيئات تهرب من إبتسامتك الوالِهه، وأُسميها قُبله، يمتلكني مصد لماك، تنتحر هيبة الورد وتتدلي المياسم، المواسم التي صنعنا لها الرحيق، نخبز لدُنها محتوي التصاقنا نطفة، تعتسف إضطرادنا. لماذا تبوحين لي؟، أنا الآن ريح مُعاكسة وأنت الاقتراب، أنا تلك الرفرفة المُستحيه خلف أزرار قميصك، وإنت نقطة المرايا المحتدمة بالرؤي، التي تلصف علي صدري العرق، تنشُد المؤانسه على تخوم الجسد، حين تُرمّم فجوة الشوق علي فوهة السلوي، تقف الاجوبه الحرجة، وتعلن إنقشاع الانا.” في هذا المقطع نستطيع ان نري كيف تتحول قبلة الي حالة كونية، حادثة تتأرجح في الحد الفاصل بين الموت والحياة، عبر غابة من التشبيهات والاستعارات و بديع المجازات، تتلون الحادثة اللحظية التي لا تعمِّر سوي دقائق معدودة لتتحول الي خانة الخلود. وبذات الادوات التي برع منتصر في تطويعها لرسم هذه اللوحة – ومثلها كثر عبر الرحلة – يُخبَزُ الرحيق ليتخلق نطفة تبشر بجنين كامل الصفات وتبدو الابتسامة في ثوب قبلة ولهي تؤدي بهيبة الورد الي التهلكة. لم استطع ابدا ان اتفادي الموسيقي ، ذاك الدفق من المشاعر عبر التراكيب اللغوية المستجدة والتشبيهات المبتكرة الخلابة لم يكن له الا ان ينتج لحنا تسمعه فقط بقلبك، يجعله يطرب و يختلج شغافه لينتج مزيجا من الحميمية الدافئة الي الساخنة ، و الالة التي ان سعيت لمصدرها ومبرراتها فسيخيب فألك لأن الكتابة هنا تنتج لوحات متعددة تتداخلك لتضعك في هذه الحالة من السمو الشفاف الذي يعيدك الي حالتك الاساسية من الانسانية، نقي وشفاف. غوصك لأغوار اعمقك يقودك لتلمس الأجواء الاحتفالية بالحزن المهيب المسيطر علي خط الرحلة من مبتدأها الي ما لا نهاية لها، المشاعر الخاضعة لسلطانه تؤكد أنه سيد المشاعر جميعها، هو من يمنحها نكهة ولون، اذ كيف لرجل بلا حزن أن يحب؟ وكيف لأنثي لاتمنح الشجن مداه أن تُحب؟ بالقطع لا يمكن ان لكل ذلك ان يثبت في اطاره دون ان يتكيء علي قدرة بالغة المهارة في تخير المفردة، واستطاعة ان تمزج بين لفظتين ما كان لك ان تتخيل امكانية تلاقيهما وقدرتهما علي رسم هذه الصورة الثرية النابضة بالحياة. المفردات هنا في تشابكها وتفاعلاتها الفريدة تتغنج في ثوب جديد علي ساحة مهرجان ولد فجأة وللتو. الرحلة انثي مغامرة جمالية بالغة المتعة و ممعنة في العمق و التعقيد بالتأكيد تحتاج اكثر من بضعة أسطر لتقديمها كونها تساهم في مد رقعة كتابة تقاصر تعاطيها في ساحتنا الثقافية وطمرت تحت سيل من الكتابات سريعة الذوبان والزوال . بالقطع هي تقف شاهدا علي القدرة الكبيرة لكاتبنا علي تطويع اللغة لتنتج لوحات ما كنا نظن انها موجودة مع كامل التحكم في لوحة التشبيه والاستعارة وعصر آخر نقطة يمكن ان ينتجها مجاز ما في افريز اللغة . هي دعوة لشحذ كامل الخيال وفتح الوجدان علي مداه والاستعداد بكامل العتاد المعرفي لخوضها.
(الرِّحلة أُنثى)، صدرت عن: مطابع الهناء المصرية توزيع: دار عزة تصميم:محمد الصادق الحاج/لوحة: سيف لعوتة