صيد الخاطر .. “محمد أمين أبو العواتك” مابين الحريات المطلقة والحرية المدنية ( المواطنة3)
مساهمة الاونيكس للإنسانية نتاج حفريات معرفية أصيلة لكرسي البحوث
الحريات المدنية هي فن التنقل بسلام في مسارات الحياة
خلصنا في الجزء الثاني الي نجاح الأونيكس في انجاز ميثاق متفق عليه بين اهل الاديان، وغيرهم من اهل المعتقدات، حول القيم المشتركة في ان الانسانية كيان واحد ، تجمعنا المساواة وكرامة الانسان واحترام الإختلافات، وساعد في ذلك البحث المعرفي الأصيل والمراجعات الممتدة لمسؤول كرسي البحوث والجودة في الاونيكس، مولانا الشيخ النيل ابوقرون، في ابراز منهج الاونيكس الذي يقوم علي القيم المشتركة، لان التعايش السلمي وترابط المجتمع من مستوى الأسرة حتى مجتمع الإنسانية الكبير، يتطلب التعرف على القيم المشتركة بين الناس، وجعلها نصب العين والتعاون التام في المصلحة العامة ، وكما بينت في الجزء الاول الي ان لحظتنا الآنية وظروف مجتمعاتنا مع المهددات والتداخلات الداخلية والخارجية المختلفة، تؤشر بوضوح إلى أولوية العمل في التطور الشخصي للمواطن، على هدي شمولية القيم في الرسالة الخاتمة لتتماهى مع التطوّر، الإنساني لهياكل الحكم المعروفة في هذه اللحظة التاريخية، وذلك بتعلية قدر “المواطنة” ومناهجها الأخلاقية والتربوية والحقوقية، في أدائنا السياسي والتشريعي والتنفيذي ومعاملاتنا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، واستحداثها “كسلطة رسمية رابعة” تنفذ أمرها “بقوة الحق وسلطان المعرفة” لحراسة الحقوق الدستورية للفرد والمجتمع والبيئة.
ونحن نتطلع لبناء دولة الحرية والسلام والعدالة، لابد من التركيز علي الحرية كهبة إلهية مقدسة للناس كافة؛ من خالقهم علي ماهم عليه من اختلاف وتنوع، وهو ما انتبهت له الاونيكس في تصويب النظر فيها، والفرز الدقيق مابين الحرية المطلقة والحريات المدنية ، فمفهوم الحرية مطلقا كما يقول بروف عبد الله يسن يقود الى إشكالات قد تعيق أنشطة المجتمع، مثل تبادل الآراء والعمل السياسي والإعلامي بكل وسائله، والتأليف والنشر وغير ذلك، فهي تعني القدرة غير المرشدة على التصرف وقيام الفرد بما يشاء ، من غير التزام بضبط النفس أو مراعاة لخصوصيات وحريات الآخرين، ويستحيل على الإنسان مثل هذا التصرف لوجود محددات لقدراته الطبيعية والصحية والبيئية وغيرها. وفي الواقع لا توجد حرية مطلقة: لا لعنصر في نظام فيزيائي ، ولا لحيوان في نظام بيئي ، ولا لشخص في نظام اجتماعي أو سياسي. ففي السياق الاجتماعي نجد أن الحرية المطلقة ، في أفضل أحوالها قد تكون هي حق الفرد وقدرته على التفكير ، والتعلم ، والإعتقاد ، واتخاذ القرارات بشأن تصرفات الفرد فيما لا يتعدى شخصه، وعلى الدولة حماية هذه الحقوق بالقانون. وعليه لابد من النظر في مصطلحات محددة المعالم للتعامل في السياق الإجتماعي مثل “الحريات المدنية”، وهي شكل من أشكال “الحرية” يستخدم على نطاق واسع في النظم الاجتماعية والسياسية، لأنها في هذا السياق تعني المقدرة على التصرف والتعبير عن النفس؛ وفقًا لإرادة الفرد بما يتماشى مع مسؤوليته، وواجبه الأخلاقي، والتزاماته المدنية، وانتمائه الفكري والإجتماعي. وبهذا المعنى، قد تكون الحرية المدنية هي فن التنقل بسلام في مسارات الحياة، دون التسبب في الأذى لأي شخص، أو المساس بلحمة النسيج الاجتماعي.
ولضمان الأمن والسلامة يشمل مفهوم العدالة في سياقها الأوسع ، المناقشة الفلسفية لتحديد ماهية العدل، وهذه تؤدي إلى الصياغات الدستورية والقانونية التي تمثل الحد الأدنى لمكارم الأخلاق، هذا من ناحية ، ومن الناحية الأخرى ، تعتبر العدالة تحقيق ما هو عادل، وهذا الأمر مهم للغاية لكل من الحكومة والمواطنين لأهميته في أداء الحقوق والواجبات. أما مسألة تحقيق السلام والأمان من خلال نظام العدالة القانونية فأمر معقد ومكلف للغاية. ويتطلب الالتزام الطوعي من المواطن بالقانون والوعي “بروح القانون” التي تمنحه ليس فقط الإحترام بل قدسية في نفس المواطن وذلك لما يتضمنه من الأخلاق والقيم. فعندما يطيع المرء نص القانون دون روحه ، فإن المرء يطيع التفسير “الحرفي” لكلماته، ولكن ليس بالضرورة نية ومقصد أولئك الذين كتبوا القانون. ومن الشائع أن يتم إتباع نص القانون بشكل متعمد من بعض العاملين في مجال الحقوق بغض النظر عن روحه من خلال استغلال تقنيات المنطق والثغرات القانونية وتفسيرهم المنحاز للغة الغامضة في نص القانون، وهي ممارسة، للأسف تفسد إحترام القانون وقدسيته في نفوس المواطنين ، وقد لا تكون روح القانون هنا مرتبطة فقط بقصد من كتبه بل بالنتائج الفاضلة للالتزام به. إن مبادئ العدالة التي تضمن الأمن والسلامة توجد في العديد من جوانب الفلسفة وجميع التعاليم الدينية ومعظم التراث الثقافي للمجتمعات. وربما من خلال التعليم ورفع مستوى الوعي ، قد يتعرف الناس (ممارسي القانون والعامة على السواء) على جذور مبادئه الأخلاقية ويتبنون نص القانون وروحه، وهذا واجب دستوري على الدولة القيام به، وحق لكل مواطن أن يعرفه وواجب عليه الإلتزام بمراعاته في كل معاملاته، وهذا الإلتزام الأخلاقي المتبادل بين المواطن والدولة هو الأساس لبناء دولة القانون الفاضلة التي يستوي فيها الحاكم والمحكوم ويكتمل بها عقد المواطنة. وقد يكون هذا هو السبيل إلى الأمام لتحقيق الأمن والسلامة من خلال الأخلاق التي تشرب بها مجتمعنا في السودان منذ فجر التاريخ. ودور الأسرة في هذا المسعى دور مركزي لا غنى عنه، وفي ذلك تقول المستشارة جودي شيندلين:
“لا يمكن تعليم كل الأخلاق والمثل والتعاطف والرأفة في المدارس. هذا التعلم محله بيت الأسرة ، فالأطفال يتعلمون بالإقتداء”.
ولأن المجتمع أيضًا يتعلم بالإقتداء، فلابد من القدوة الحسنة من قادة المجتمع والقيادة السياسية.
المحور الثالث في مساهمة اونيكس متعلق بالديمقراطية والمشاركة في العملية السياسية على أنها ارتباط وظيفي بوحدة اجتماعية ونظام اجتماعي ووطن، وهذا يتداخل إلى حد كبير مع تعريف المواطنة، فإنها تنطوي على ربط الأفكار فيما يتعلق بالصالح العام ، مع الاعتراف بأهميته وصلته بنا، مما يؤدي إلى تبني ذلك الصالح. وهذه المشاركة السياسية مهمة لتكوين ثقافة مدنية نابضة بالحياة. ولتحقيق هذا المطلب، نحتاج كأفراد ومجتمع أن نعود إلى الأساسيات: إلى جذور مجتمعنا. فذلك الإرتباط الوظيفي بالعائلة – وحدتنا الاجتماعية وإرثنا المشترك لا يزال موجودا وفاعلا.. فعلاقاتنا الأسرية والإجتماعية هي علاقات سياسية مبنية على الأخلاق والإحترام المتبادل.
كتبت سيرين جونز ، أستاذة اللاهوت في مدرسة ييل ديفينيتي: “إن الإشتغال بالسياسة يتطلب التفكر في وجودنا المشترك وتحديد شكله وطبيعة معاملاتنا المستمرة. والحديث عن السياسة يعني سرد قصة حياتنا معًا – قصة تتضمن سردًا لأكبر إحباطاتنا وإخفاقاتنا وكذلك أعظم تطلعاتنا وآمالنا. وبالمثل، فإن علاقاتنا “السياسية” ليست فقط تلك التي تربطنا بالمسؤولين المنتخبين أو الذين يختلفون معنا في الرأي السياسي. فهي تشمل أيضًا تفاعلاتنا مع أطفالنا وأحبابنا وجيراننا، وطالما أن كل واحد من هؤلاء هو جزء من حياتنا المشتركة، فعلاقاتنا بهم جميعهم علاقات سياسية عميقة “. وفي رأيي أن هذا أيضًا، هو معنى أن نكون مجتمعًا واحدًا وإنسانية واحدة. لا تدع، أخي المواطن الراحة التي نجدها في منازلنا تصرفنا عن متعة الراحة التي نجدها في مدننا وبلداننا. فكم من عائد للوطن بعد غياب إرتمى يقبل ثراه. فتخطيطنا الهادئ لحياتنا العائلية حول طاولة الطعام وتداولنا في أمورالمعيشة وتوزيع الأدوار بين أفراد العائلة بكل حميمية واحترام أمر يطابق العملية الديمقراطية في جميع مستوياتها، بدءًا من انتخاب ممثلينا للمشاركة في التخطيط الأكبر للعائلة السودانية على إمتداد بلادنا لتحقيق ما نرجوه للوطن كافة، إلى إماطة الأذى من الطريق المؤدية إلى باب بيتنا.
هذا ما يرجوه بروف عبد الله يسن بين يدي المساهمة القيمة لمؤسسة الاونيكس في امنياته بعد هذه الثورة المباركة الحضارية التي رفعت رأسنا عاليا في بريطانيا وكل دول المهجر في قوله “دعونا نتذوق طعم الإنتماء لمنزلنا الأكبر، سوداننا الحبيب، ونعيش فيه أسرة واحدة كالجسد الواحد، يوقر صغيرنا كبيرنا ويرحم كبيرنا صغيرنا، ونتعاون جميعا بنشاط في تأسيس منزلنا، منزل الآباء والأجداد وأبنائنا في المستقبل الواعد بإذن الله، كل بما يستطيع ..”لوعندك خت، ولو ما عندك شيل”، التحية والإحترام لجيل الثورة النبيل.
وأختم بإعلان نيوبورت حول المواطنة والقيم المشتركة والذي تبنته كسابقه حكومة ويلز وبدأت الحكومات المحلية في جنوب ويلز دمجه في المقررات المدرسية، لعله يكون بذرة طيبة نحو صياغة لعقد المواطنة في السودان:
اتفق ممثلو الديانات والمعتقدات الحاضرين لمؤتمر منطمة الأونيكس للتواصل الفكري على التوقيع على الإعلان التالي الذي يتناول أسس موضوع المواطنة من منظور القيم الدينية والعقدية.
“إن الأديان والمعتقدات لديها اهتمام جذري بالمجتمع من خلال العناية بالأسرة وسلامتها وتحقيق السعادة لأفرادها نظراً لما تتضمنه هذه الديانات من قيم وأخلاق مشتركة ظلت ثباتة ومكرمة عبر التاريخ، وعليه يمكن فهم موضوع المواطنة على ضوء النظام الأسري كما يلي:
إن القيم التي تبنى عليها أواصر الأسرة وانضباطها الأخلاقي والتزام أفرادها بالمسؤولية الجماعية يمكن أن تشمل تقوية الصلات الإجتماعية وإنضباط المجتمع ومراعاة المسؤولية المدنية.
إن الشخص الملتزم باعتقاده الديني الخاص بمراعاة القيم التي تبنى عليها سلامة وسعادة الأسرة والمجتمع هو بالضرورة مواطن صالح، ومثل هذا المواطن سيحترم حقوق الآخرين، ويعاملهم كما يعامل نفسه، ويلتزم العيش بسلام مع الجميع، ويراعي مسؤولياته المدنية، ويشارك في الأعمال الخيرية التي ينتفع بها الجميع.
إن توافقنا اليوم على مثل هذه المبادىء سيعزز التزامنا الجماعي بالمسؤولية المدنية والتعاون لما فيه الخير للجميع، وترابط المجتمع وتحركه كوحدة تواجه تحديات العيش والمشاركة الفاعلة في العملية الديموقراطية والتعاون في الحفاظ على البيئة