المقالات

امواج ناعمة ….د.ياسرمحجوب الحسين ….الدولة السودانية الغائبة

712views

قالت ناشطة سياسية سودانية اشتهرت ببث مقاطع صوتية عبر وسائل التواصل الاجتماعي في آخر تسجيلاتها وهي تخاطب ابناء وطنها: “علينا أن نودع بعضنا فلا ندري فقد لا نلتقي في القريب كسودانيين يضمنا الوطن بحدوده المعروفة”. وعلى الرغم من أن حديث تلك الناشطة يبدو كنوع من الفن المسرحي التراجيدي أو نوع من الكاريكاتور الصوتي الساخر، إلا أن ما ذهبت إليه نتيجة منطقية لحالة عبثية تعيشها البلاد حيث تبدو الدولة غائبة وفاقدة للسيطرة على الرقعة الجغرافية التي تسمى السودان.

والدولة الغائبة التي تمسك بتلابيبها القبلية، تفشل في تكوين المؤسسات الرسمية والشعبية، وتعجز عن اجتراح صيغة توافقية بين القوى الاجتماعية والسياسية لتنمية الولاء القومي على حساب الولاء الجزئي والقبلي في سياسات تعليمية وإعلامية متفق عليها، وفي التوافق على قيود فاعلة للحيلولة دون نفوذ القبيلة في مؤسسات الدولة.

لا يمر يوم في السودان إلا ونسمع عن اشتباكات قبلية وعرقية شرقا وغربا وجنوبا؛ آخرها ما شهدته منطقة جبال النوبة المحاذية لدولة جنوب السودان من انهيار أمنى كبير وأحداث قتل ونهب وسلب في الطرقات والمنازل تحت سمع وبصر حكومة ولاية جنوب كردفان، وبلغ من السوء أن حوصر الوالي في منزله الأحد الماضي وفاق ما تم حصره من جرحى وضحايا المائة شخص. وتعود القصة لتمرد كتيبة تتبع للجيش قوامها إحدى قبائل النوبة كانوا قد انسلخوا في أواخر التسعينات من الحركة الشعبية وانضموا للجيش. وجاء تمردها إثر نهب مسلح راح ضحيته أحد أفراد الكتيبة أثناء النزاع مع أحد العناصر من قبيلة أخرى، فكانت ردة الفعل من قيادة الكتيبة حرق وضرب وقتل في وسط عاصمة الولاية وداخل السوق على أساس الجنس واللون.

“داحس وغبراء” جاهلية العرب قصص تتكرر في البلاد؛ ففي 2015 دارت معارك بين قبيلتين في ولاية شرق دارفور حيث مئات القتلى والجرحى في إحدى معارك القبيلتين. معركة استخدمت فيها، أسلحة ثقيلة متنوعة مثل صواريخ الكاتيوشا وقذائف (آر بي جى). المدهش أن تلكُم المعركة دارت في ظل حكومة مركزية كانت أكثر سيطرة من الحالية فأعدت قوة جرارة للفصل بين القبيلتين قبل أن تتحول ديارهما إلى ديار خراب، وحوض يباب.

التساؤل المـُلح؛ كيف لحكومة منوط بها إيجاد الأمن للناس، أن تسمح باستمرار التوترات القبلية والمجتمعية المسلحة مهما كانت الظروف، ومهما كانت المبررات؟. وكيف يتسنى لحكم انتقالي ضعيف إدارة دولة بها تنوع ثقافي وإثني ومناخي جعله يحتضن معظم المجموعات العرقية الموجودة في قارة افريقيا، فهو يضم 518 مجموعة قبلية تتحدث بأكثر من 119 لغة؟.

وبدلا من أن يكون هذا التنوع مصدر قوة إلا أن النظام السياسي في السودان فشل في إدارته ومن ثمّ تحول هذا التعدد إلى عامل ضعف وانطبقت عليه مقولة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة التي قال فيها: (الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل ان تستحكم فيها دولة، والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وان وراء كل رأي منها هوى وعصبية تمانع دونها فيكثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت).

إن مصطلح “القبيلة” يشير إلى كيان اجتماعي حامل للقيم ورابط بين الجماعة يوفر لها الحماية والمصالح. أما مصطلح “القبلية” فهو ينطوي على عصبية، حيث يصبح مدلول هُـوية، ليعطي عضو القبيلة احساساً وإدراكاً بأنها تشكل له هُوية تطغى على الهُويات الأخرى بما فيها الهُوية الوطنية. فتغدو نزعة، بل تشكل لأعضائها تصورا بوجود حدود اجتماعية وحدتها الأساسية القبيلة. وتجتمع القبيلة على قلب رجل واحد للوقوف في وجه خطر يهددها تدفعها إلى ذلك غريزة البقاء، أو السعي للمحافظة على وضعها في مواجهة القبائل والجماعات الأخرى. وتكون القبيلة أكثر حساسية حينما تكون أقلية في مجتمع تسيطر عليه قبائل أخرى.

لقد ألبس العبث السياسي في الشأن القبلي أبناء القبائل الوادعة شيعا يذيق بعضهم بأس بعض. ولسوء الحظ فقد أخذ الصراع القبلي في السودان يرتبط ببنية الدولة ونظامها السياسي، وبالضرورة بخطابها السياسي. فتحول النزاع الاجتماعي إلى صراع مسلح. وغدا النزاع ظاهرة قابلة للتطور وصولا إلى حالة الصراع (النزاع المسلح) بفعل الخطل السياسي، فيصبح ظاهرة ومعضلة تتجاوز طبيعة النزاع القبلي التقليدي، الذي يتم احتواؤه عادة بالأعراف القبلية أو ما يعرف في السودان بنظام الإدارة الأهلية.

لقد عملت التدخلات السياسية على تسييس القبيلة، مما أحدث استقطابا سياسيا وتوظيفا للصراع القبلي في اتجاهات عديدة. وأيقظت عودة الجهوية ما كان نائماً من فتنة الصراع القبلي الدامي في أرجاء عديدة من البلاد. ولم تعد مؤسسة القبيلة التقليدية صاحبة النفوذ الواقعي موجودة. وأصبحت القبيلة لا هي منظمة حديثة، بقواعدها الحديثة، ولا هي تقليدية، بتقاليدها التليدة. والنتيجة المركبة فوضى في النشاط السياسي المليء بالأحزاب السياسية القبلية وبالقبائل الحزبية. فقد أدى التدخل السياسي إلى إضعاف ميكانيزمات المجتمع فانهارت عناصر الضبط الاجتماعي.

النتيجة العاصفة أن السودان أصبح اليوم دولة تفتقر إلى سلطة وطنية تحقق التوافق الوطني وتبسط هيبة الدولة وبالضرورة توفر حقوق وأمن مكوناته القبلية المختلفة. ولن يتحقق أركان السلام الاجتماعي ما لم تحسن الدولة إدارة التعدد الإثني والعرقي والديني بما يزيل البغض والعداء بين أفراد المجتمع. ولا يتحقق السلام والأمن بعقد اتفاقات يعود ريعها لأمراء الحرب. فالتنوع عرفته المجتمعات البشرية منذ زمن بعيد، وهو قيمة ومصدر قوة إن تمكن السياسيون من إدارتها إدارة سليمة.

ليصلك كل جديد انضم لقروب الواتس آب

Leave a Response

سبعة عشر + 16 =