طاقية حمدوك
محنة الرؤية الإقتصادية للثورة
الباحث : عثمان برسي
يطلق جون كويغين على الأفكار الإقتصادية التي لن تموت على الرغم من التناقضات المنطقية الكبيرة والإخفاقات التجريبية الضخمة تسمية مفيدة هي إسم (( إقتصاد الزومبي ))، وسياسات رفع الدعم وقضية تخفيضات الإنفاق الحكومي تحت مذهب التقشف ،هى إحدى أفكار إقتصاد الزومبي لأن خطأها تم إثباته بشكل متكرر، لكنها لا تزال تبرز ولا تزال جذابة في تبسيطها ،وهذا يجعل من الطاقم الوزاري الرئيسي (حمدوك ) وتفرعاته المتمثلة في الطاقم الإقتصادي الذي يدير الرؤية الإقتصادية (البدوي) ،يجددان ويكشفان رؤيتيهما الإقتصادية المستندة عالمياً إلى الفكرة التاريخية الخطرة جداً (التقشف)، في محاولة للتخلص من دولة الرعاية التي يكرهون، بالرغم من تناقضهما المفضوح بإنتهاج أقنية التمويلات المصرفية العالمية والإقليمية، بل وكذلك الإنصات إلى مطلوبات بنيوية في السياسات الإقتصادية، لم يجف حبرها الآن وأصبحت واقعاً اقتصادياً ضمن سلسلة القيمة السلبية المضافة للسياسات والتدابير الإقتصادية التي شرع فيها مؤخرا الطاقم الاقتصادي والتي تعتبر إضافة سيئة لتاريخ الفكر الإقتصادي السوداني المشوه، ضمن الرؤية الاقتصادية الغائبة والعاجزة عن استحداث النمط المحلي، وبناء النموذج الإقتصادي (النمو) ،والذي بالضرورة هو حتميا في شرطه الضروري أن يكون تخليقه ابتداءاً من صميم سيرورة الكشف عن البنية الإجتماعية ،وهو أي النمو الإقتصادي أن يؤسس (من مؤسسات ) داخل بنيته الإجتماعية وليس خارجياً أو ليس مشتقا من مؤسسات تشكلت وفق بنية إجتماعية /نفسية مغايرة،وهنا أصل التناقض مابين سياسات الطاقم الإقتصادي الفرعي (البدوي) والتي وفق سياستها تعمل على نحو يجعلها تقف حجر عثرة ضد الرؤية الإقتصادية العامة للطاقم الرئيسي (حمدوك) بالرغم من أنهما يخرجان من مشكاة واحدة جذورها عالمية بإمتياز، (إقتصاد الزومبي المحرر من قيود فكرة الدولة الحاضنة لنموها الإقتصادي ) ،بالرغم من الإدعاء بتشكيل تجربة ذاتية وطنية ينسفها فعلياً ما تم التأكيد عليه فعلياً من إجراءات إقتصادية بالضرورة تعمل ضد النموذج التنموي (النمو) الخاص بالاقتصاد السوداني، (إقتصاد الزومبي المحرر من قيود فكرة الدولة الحاضنة لنموها الإقتصادي ) .
سياسة النمو الصيني هي إبنة الرؤية المتصلة بالبنية الإجتماعية ،وليس التلاعب والإهمال الذي تقوم به طواقمنا الإقتصادية الآن عبر أدوات ضئيلة جداً وهامشية فكريا،ً لا وبل تاريخية ،وأثبتت انها مظهر إيديولوجي أكثر منها رؤية إقتصادية راسخة لتصنيع التحول الإقتصادي، الذي يكون مؤثرا في إعادة تركيب البنية الإجتماعية المتكلسة معرفيا. .ومن ثم الربط عبر التحولات الإجتماعية لتحفيز البنية السياسية واستدامتها السياسية والتي تتصنع في النموذجين الإقتصادي والإجتماعي ،وهي انعكاس لهما، من هنا يأتي تضارب وتناقض فلسفة الطاقم الإقتصادي الرئيسي لحمدوك وتفرعاته الجانبية (طاقم البدوي) لتكون المحصلة النهائية رؤية إقتصادية هشة وضعيفة وفوضوية فكرياً وعاجزة عن إيجاد رصيد كافي لإجراء التحول في البنية الإجتماعية الأشد صلابة على التغيير، إلا بعمق إقتصادي /معرفي مواز وعميق.
الرؤية الإقتصادية القائمة على تخفيضات الإنفاق ورفع الدعم كسياسات (إقتصاد التقشف )، والتقشف المالى هو عملية محاسبية لإقتطاع نسبة ضخمة من الإنفاق الذي تقوم به الدولة في الخدمات وللمواطن، عندما تنفق أموالا في العمليات الإقتصادية على نحو هائل. تأتي هذه السياسات التقشفية لصناعة (حمية )، مثلها مثل الحمية الغذائية لإنقاص الجسم المكتنز ،وهو هنا الصرف البذخي الكبير والإنفاق المفرط للدولة في المال، بالتالي حتى هذه السياسات التي تنادي برفع الدعم وتخفيض الإنفاق الحكومي تشترط اكتناز الجسم باللحم (الإنفاق الحكومي المفرط ماليا ) ومن ثم إجراء الحمية، ومن هنا يأتي الضعف المركزي في الرؤية الإقتصادية التي يقودها الطاقم الإقتصادي بإعتباره أنه يريد أن ينفذ حمية غذائية في جسم نحيل اصلا(يعاني الإقتصاد السوداني أنيميا في الطلب الكلي والإنفاق الحكومي )، وليس ذلك فحسب بل جسما اقتصاديا عليلا في كل المؤشرات الاقتصادية، هنا تحديداً تنبثق قضية (النمو الإقتصادي ) ويطرأ في مناقشتنا الفكرية كتاب يحمل عنواناً في شكل سؤال :لماذا تنجح دول وتفشل اخرى؟؟ .
أيضاً تحدثت التجربة الإقتصادية الصينية بتساوي فرص الدول في نجاحها في تحقيق النمو الإقتصادي الناجح لكنها قالت أن ذلك مرهون ب مبدأ ((سياسة تحسس الصخور)) وهي العبارة التي أطلقها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية والمفكرين البارزين في التاريخ الأمريكي إلى صموئيل هنتننجتون وفوكوياما والتي فحواها أن التاريخ الأمريكي المشكل للدولة العظمى لن يتكرر. .بمعنى استحالة أن تكرر دولة ما نجاح الولايات المتحدة، أما النجاح الصيني الذي أفرز سياسة (تحسس الصخور) وهي عبارة شرحها دينج بيساو كنج بإعتبار ان تشكيل النموذج الإقتصادي للدولة تكتمل مسيرته اذا استطاع أن يعبر ضفة النهر عبر مسار تحسس الأرجل للصخور تحت الماء (هنا تقوم العملية الإقتصادية الشاقة ضمن البنية الإجتماعية /النفسية وتشكيل التطور السياسي لحظة بلحظة ) ،لذا قبل أعوام أتى وفد صيني زائر وفي محاضراته القيمة قال عبارة لن يتكرر النموذج الصيني للنمو في دولة أخرى، هنا مربط الفرس الذي أقعد كل الحكومات العسكرية والمدنية في السودان ضمن نخبه التي كانت كل رؤيتها وتلاعبها على تخوم الأيديولوجيا دون أن تنفذ إلى العمق المعرفي لهذه الإيديولوجيات، لتقوم بتنشئة نموذج النمو الذاتي ويبرز السؤال هنا ليصبح :
إلى أي مدى تعتبر الأيديولوجيا انعكاس للواقع الإجتماعي. . والواقع الإجتماعي هو التجربة وهو الميراث التاريخي الأضعف لهذه النخب. .
لا غرو بعد ذلك أن تكون الرؤية الإقتصادية للطاقم الوزاري الرئيسي والفرعي متهافتة في تاريخ التنظير الإقتصادي وفي تاريخ البنية الاجتماعية الداخلية ففكرة( التقشف )وتخفيضات الإنفاق الحكومي هي حتى أدوات دخيلة في المدارس النظرية العالمية الكبرى وتعيش في دولها على هامش البحث العلمي والمجتمعي لأنها تمثل في مجموعها تاريخ فكرة خطرة لثلاث أسباب :
هي غير ناجحة عمليا.
تعتمد على تسديد الفقراء ثمن أخطاء الأغنياء.
تقوم على افتراض غياب مغالطة كبيرة من مغالطات التركيب.
رفع الدعم هو خط أحمر في الواقع، إن الإقتصاد السوداني يواجه أزمة إقتصادية قصيرة وطويلة الأجل تخلق مناخا سياسيا من (الهرع والغوغائية والتضليل )،ستفضي في الأجل البعيد إلى تخفيضات ستؤثر أكثر شيء في (الناس الأقل قدرة على تحملها )،وستبدو البنية الإجتماعية تضم أغنياء جداً يعيشون في جزر معزولة وطبقة مهنية وسطى لاهثة، وطبقة دنيا كبيرة جداً ومكافحة )،ويمكن للمرء أن يرى في مفارقة أننا بلغنا هذه المرحلة إلى حد كبير، وذلك بسبب جمود الفكر الإقتصادي وضعفه المعرفي ،حيث بالرغم من كثرة الكليات الجامعية وتطاول عمرها الزمني الأكاديمي في مفارقة بضآلة عمرها العقلي ،لم تستطع التصدي معرفيا إلى تشكيل النموذج الإقتصادي للنمو، إنما توزعت معارفها السطحية إلى مجال فرعي ضيق لايرقى أن يصنف حتى كسياسة إقتصادية جيدة في حد الكفاف النظري، وماهذه الأداة التي تسمى رفع الدعم إلا دليلاً شامخا وانعكاس للضعف والفقر الفكري في التنظير الإقتصادي للعقل، الذي تعتبر مهمته الأساس وضع الإطار وتحقق الكشف عن البنية الإقتصادية، محوري النموذج وليس تلك التقلبات العشوائية على هامش الأفكار الكبرى الإقتصادية.
هذه السيرورة هي التي شكلت النمو الإقتصادي التاريخي والجاري الآن والتي لم تؤسس ميراثا فكرياً خاصاً يصنف كتجربة محلية يكون في مقدورها تشكيل أسس مغايرة للنمو الإقتصادي، بإعتبار أن الوصول إلى خط نمو إقتصادي مستدام هو شرط حاسم لعبور انتكاسات الأزمات نهائياً، ليأتي في أعقاب ذلك دفع النموذج السياسي فهو ينشأ بالضرورة من إعادة توزيع منافع النمو الإقتصادي، وليس العكس الذي لعبه الفائض الإقتصادي التاريخي، ولا الفائض الإقتصادي المستحدث الآن الذي تقوم بتصنيعه طواقم السياسة الإقتصادية /السياسية في الرؤية الإقتصادية لدولة حكومة رئيس الوزراء الحالية، وهو بذلك يرتكز إلى نفس المنهج الذي تم تأسيسه وفق معادلة (النمو /البنية السياسية) في العشرينيات للحفاظ على البنية الإجتماعية المولدة للبنية السياسية على نحو جامد لقرن من السنوات.
هذا الميراث الإقتصادي مأخوذ في الاعتبار جيدا الآن، ويعني التعامل مع هذا الميراث الإقتصادي، الآن احتماليا على الأقل إعطاء المجتمع ومؤسساته قدرة أقل وصئيلة على الإنفاق في الحاضر وغداً، ويشعر السودانيون بقلق أكبر كثيراً حيث أن المركزية الفكرية الإقتصادية لتخفيضات الإنفاق ورفع الدعم هي تهديد حقا، لكن المسألة ذات المغزى حقا هي الأزمة الاجتماعية _السياسية الكامنة خلفه، ونظراً للدورة الإقتصادية التاريخية الموروثة لتدفق رأس المال منذ تشكيلات سنوات العشرينيات وعبر سنوات مابعد الإستقلال،ومن خلال رسمها لمشهد البنية الإجتماعية نجدها بإمتياز لا تختلف كثيراً من المواقف التاريخية التي شكلت النمط الإجتماعي المسؤول عن الاختلالات اليوم في البنية السياسية ‘والتي عمدت إلى تحقيق موازنات حكومية في مناخ من النمو الإقتصادي الحكومي السلبي في الناتج المحلي الإجمالي ومانتج عنه تراكميا في تقليص القيمة الحقيقية بمرور الوقت.
بذلك إتجه الإقتصاد لا إلى تشكيل نموذج النمو الاقتصادي المستدام، بل إلى تعزيز النمو الإقتصادي الضعيف، الذي يفضي إلى تكلس البنية الاجتماعية في ترقيها في السلم الإجتماعي، متولدة عنها طبقة بيروقراطية لم تخلق المؤسسات الجديرة بالتخليق السياسي،و الدافع للممارسة السياسية بصورتها كنظام انتخابي تداولي عقلاني لا بوصفه بنية سياسية متحكمة في مخرجات الإقتصاد (النمو) ومقيدة لفاعلية البنية الإجتماعية المأزومة.
لذلك يتمثل التركيب في (النمو) لا في تخفيض العجوزات الحكومية والديون السيادية ،وفق معادلات الانحدار الخطي لمنهج المدرسة الإقتصادية المحدثة( رؤية حمدوك _البدوي) ، حيث أن وفوراتها الإقتصادية الناتجة عن رؤيتها الإقتصادية عبر تخفيضات الإنفاق /رفع الدعم تعتبر ببساطة مجرد تخفيضات دون مردود اقتصادي على النمو أو أي مردود مناسب للأجيال القادمة، وهو أمر ضروري بسبب نماذج النمو المعتمدة على التصدير في سائر العالم.
مايقلق التحول الإجتماعي والسياسي للثورة النموذج الإقتصادي، وليس نقاشات العجز والدين الحكومي المسنودة بضآلة إلى أداة رفع الدعم والتي تسئ إلى إدراك( السبب_ النتيجة)، بل نجد أن فكرتها الهامشية تقع ضمن (الإنفاق الردئ) بما يفضي بنا إلى مرحلة من تخفيضات الإنفاق في الموازنات تمثل هزيمة للذات،( Self _defeating Economic Policy )، فلنتفق على أمر اذا بلغ الإقتصاد عدم القدرة على إعادة تمويل ذاته من خلال خلل هذه السياسات الإقتصادية (ضرب مكون النمو الاقتصادي) وهي مرحلة الخوف الكبير المفترض يمكننا أن نفترض أن بدائل النمو ستكون في لحظتنا التاريخية الحاضرة والمستقبلية قد انتهت أصلا، حيث تراكم العجز المالي المصحوب بالعجز البيروقراطي داخل المؤسسات الإقتصادية الحالية يصل إلى درجة يصعب معها إجراء التعديل النموذجي للبنية الإقتصادية، ونحن الآن نواجه خطر السياسات نفسها المصاغة في عقود الثمانينيات والتسعينيات، وتميل حقيقة غياب أي بدائل موثوقة لدى طاقم البدوي إلى ذهابنا في طريق لانهائي وموحش يقودنا إلى وجهة مزورة ومختلة للنمو الإقتصادي و للدولة.
إن حالات العجز الإقتصادي (الدين) هي حالات دورية وتعتبر ضئيلة مقارنة بفكرة (النمو) المحور الرئيس الغائب في منظومة العقل الإقتصادي، الذي يقبع في مؤسساتنا الإقتصادية والعقل المحنط في المؤسسات الأكاديمية، والإجابة على معضلة البنية الإقتصادية أن النخب قد حولت العمل السياسي المتعلق بالبنية الإقتصادية إلى مسرحية (معنوية) ،نقلت فيه اللوم من إتجاه ميدان التشريح (الدورة الإقتصادية للقطاع الخاص خارج النمو /الدولة والتراكب الطائفي المسنودة بالمؤسسات البيروقراطية التي تعمل خارج نموذج النمو ) إلى الدولة التي تمثل البنية الإجتماعية، وفي هذه الوضعية نجد أن السياسات المالية والنقدية المسنودة إلى تخفيضات الإنفاق ورفع الدعم هي الكفارة (لقد دعى بعضنا إلى الحفلة لكننا مدعوون جميعاً لتسديد الفاتورة ).
الموازنة العامة للدولة واستحواذ هذه الأداة الضئيلة (رفع الدعم ) على ساحتها الرئيسية ينتهي بها المطاف في (دفاتر الدولة) وفي موازناتها العامة ،الخاصة بالاصول والمطلوبات في تراكم العجز، حيث مبدأها أن العجز يجب أن يتم تقليصه قبل أن يقوض الدين المتزايد النمو، يتجاهل هذا المنطق التوزيع الفعلي للدخول في المجتمع، والمسألة الحاسمة المتعلقة بالقدرة على الدفع، وهذا يشير بوضوح إلى أن خفض إنفاق الدولة يوزع ببساطة بشكل غير منصف وغير مستدام، لأن الطبقة الوسطى والادنى (الفقيرة) تضعفها سياسات النمو الناتجة عن سياسات إخلاء الدولة لمهمتها الكبرى في الإنفاق العام.
هذه هي( التحويلات الإجتماعية) العابرة لتوزيع الدخول الوحيدة التي تجعل فكرة الطبقة الوسطى ممكنة، وليس سياسات التجريف الإقتصادي لطاقم البدوي، والتي بدلا من تقوم بصناعة توسيع الطبقة الوسطى وتدعيمها عبر تسلق أعضاء الطبقة الفقيرة في الترقي في السلم الإجتماعي للحاق بالطبقة الوسطى، لتصبح تيار إجتماعي عريض يملك فاعلية في البنية الإجتماعية، تمكنه من التصدي لمهام البنية السياسية الجديدة نجده بهذه الرؤية الإقتصادية معززا لسياسات الأزمة في جوهر بنيتها الإجتماعية، وذلك لا يحصل بالمصادفة المجردة بل عبر البنية الاقتصادية وسياساتها .
حين يتم تقليص الاقتصاد في ميدان الخدمات الحكومية لا يتوقع قطعا من الناس القابعين في الطرف الأعلى إن يشدوا احزمتهم ،بل سيفعل ذلك أولئك القابعون في ال 80% الدنيا من توزيع الدخول، وهم الذين لم يحصلوا على زيادة فعلية في الرواتب منذ السبعينيات من القرن المنصرم، هؤلاء هم الأشخاص الذين سيتعرضون لسياسات (ضبط أوضاع المالية العامة ) وسياسات رفع الدعم، هذا هو السبب وراء إعتبار هذه السياسات أولا وأخيراً مشكلة سياسية من مشاكل التوزيع وليس مشكلة إقتصادية من مشاكل علم المحاسبة.
هكذا سياسات رفع الدعم وتخفيضات الإنفاق إذن فكرة خطرة لأنها تتجاهل الجوانب الخارجية التي تخلقها ،وتأثير خيارات شخص في خيارات شخص آخر، خصوصاً عند مواجهتها لأساسيات الإقتصاد السوداني (Economic Fundamentals ) ذو التوزيع المشوه للدخول، فقرارات الضرائب والإنفاق والإستثمار ضمن سياسات حكومة حمدوك وطاقم البدوي الإقتصادي (الرؤية ) يتم تخليقها الآن ، في صورة أزمة مالية وصناعة مؤسسات اقتصادية مفصولة تماماً عن تشكيل النمو الإقتصادي المحفز للبنية الإجتماعية _السياسية للثورة بما يمكنها من إعادة تركيب وتصنيع الدولة التاريخية دولة الإستقلال للتغلب على منهجها المنحرف تاريخيا، ويبقى المشهد التاريخي قائما من خلال تعزيزه في موجة جديدة بدفع من نخب اليوم من خلال تدعيم النموذج الاقتصادي المشوه في جانب السياسات والمؤسسات مستندا على عبارة( إن الدولة التاريخية هي أكبر من أن تنهار )بينما تترك الرؤية الاقتصادية (المسدودة معرفيا ) البنية الاجتماعية الوسطى والادنى في توزيع المداخيل لتسدد ثمن الأزمة بإستمرار (أقل من أن تنقذ من الاضمحلال ).
هذه المعادلة يتحكم فيها نشأة القطاع الخاص التاريخي المشكل في عقد العشرينيات من القرن الماضي، والذي تم تشكيله هو( ودولته )على عجل ليحقق معدل نمو وانفاق محدد يحكم ترابطات ضعيفة لكنها ذات نواة صلبة في البنية الإجتماعية _السياسية ويقوم بتحقيق منافع هامشية على مستوى التجارة الدولية بالضرورة غير مستدام، ولا محالة أن القطاع الخاص قد أحدث تراكما معتبراً، ولكنه منحرف وخارج النمو الاقتصادي للدولة، مما وجه سياسات الإنفاق الحكومي إلى حد كبير جداً أن تتمظهر في شكل (الإنفاق الحكومي الذي يقود التكلفة _ويراكم العجز )، بينما محركات النمو الاقتصادي مكبلة بمبدأ (شدوا احزمتكم) عبر مسار لولبي لأسفل للطبقتين الوسطى والفقيرة، أدنى السلم الإجتماعي حيث ينتظر من هذه البنية الإجتماعية حسب الرؤية الإقتصادية لدولة رئيس الوزراء وطاقمه الفرعي البدوي أن يسددوا في شكل غير متناسب ثمن قضية الإنفاق الحكومي، وعمليات رأس المال المنحرفة عن اقتصاد مسؤول للدولة، في آن واحد عليهم مواجهة الفكر الإقتصادي الهش ضمن سياسات البيروقراطية التي لاتنهض على مفهوم البيروقراطية القائمة على الميرتوقراطية (الجدارة ) (مدجنة تاريخياً )، المسؤولة عن تصنيع النمو الإقتصادي المعكوس، وبالتالي لم ينتج الغقل الإقتصادي ولا مؤسسات( دولته) مايكفي من العائدات لتصويب الأمور، بل أنتجت السياسة الإقتصادية في هيكلها العام الإنفاق الحكومي بنية إجتماعية أكثر استقطابا وتسيسا (الرؤية الإقتصادية لطواقم حمدوك ) ستقوض الآن الشروط اللازمة لقيام عمل سياسي مستدام ،يتعامل مع عجز إضافي ضمن التراكم السياساتي التاريخي والمعدل الآن بصورة فجة في الرؤية الإقتصادية، ضمن مؤشرات العجز والإنفاق الحكومي والنمو.
البنية السياسية في العشرينيات من القرن الماضي وحتى الثورة الحالية بتفرعاتها واتجاهاتها لن تستفيد من طريق (النمو العشوائي)والمسار التاريخي هذا، نتيجة للرؤية القاصرة للإنفاق الحكومي ونتيجة( للدوغما )في عقل النخبة السياسية في آن واحد ،والتي لم تستطع بما نالته من معرفة إنجاز عملية التفكيك والتركيب في إطار بنيتها الإجتماعية، وستبقى الصورة في الدولة دون إمكانية التقدم (وتحسين ظروف المرء)،وهنا يمكن إستحضار مانقل عن السيدة تاتشر رائدة مدرسة الخصخصة :(ثمة شيء قائم أسمه المجتمع نعيش فيه جميعا أغنياء وفقراء معا في السراء والضراء ).
إن الرؤية الاقتصادية للطاقم الإقتصادي الحالي المستندة إلى القطاع الخاص ومحورها تعزيز سياسات تخفيض الإنفاق الحكومي خاصة أداة رفع الدعم مبدأها الأساس الجوهري (القطاع الخاص أكبر من أن ينهار) وهذا المبدأ يوجه اللوم للدولة بإعتبارها هي السبب في الإضطراب المالي وتقلبات الاقتصاد تحت مسمى الإنفاق الحكومي المفرط وفق مفهوم مباشر.
إن البنية السياسية في السبعينيات قد استمدت جذوتها في ذلك العقد من ربيبتها في عقد العشرينيات، من حيث جعل محور التشكيل لسياسات الإقتصاد الكلي يدور حول النمو المشوه ،والذي يتم تعزيزه اليوم وفق رؤية طاقم البدوي الإقتصادية ،وهو الآن يمثل العمل السياسي لسياسات التقشف وتخفيضات الإنفاق لينحرف تشخيص الأزمة فتتحول أزمة القطاع الخاص لتصبح أزمة (الدين السيادي )و (أزمة العجز الحكومي)للإنفاق الحكومي المسرف، وليس فوائض النمو (شركات صناعة النفط_ شركات الذهب السيادي _شركات صادر الموارد الطبيعية) .
بهذه السيرورة تم تشكيل الرأسمالية الجنينية تاريخياً ضمن الإرث التاريخي لعقود طويلة خلت ومازالت الرؤية الإقتصادية لطواقم حمدوك تسبح بحمد الخط العام لمنهج هذا النمو ضمن حاضنته التاريخية الإجتماعية عاجزة عن قراءة تحولات البنية الإجتماعية بفعل ثلاثة عقود من مسار موجات ثورة المعلوماتية وتوليدها البنية الإجتماعية الجديدة التي أنجزت الثورة والفعل الإجتماعي_السياسي المحلي.
تهافت الرؤية الإقتصادية ،التي بدلا من أن تقوم بالمهمة الجراحية لتعديل وإعادة فك وتركيب لبنية القطاع الخاص ليتواءم مع تصور النمو الإقتصادي للدولة كمفهوم مجتمعي، نجدها تعزز تشوه هذا النمو البعيد عن إطار الدولة كمفهوم تنموي، وتستند الرؤية بإلقاء اللوم على الدولة في مكونها الأهم والحاسم مكون الإنفاق الحكومي، وهذا اللوم عمليا هو من صنيعة البروقراطية أعلى الهرم السياسي، وقادة الأعمال المصرفيين، وشركات الصادر ،وكذلك للمفارقة سياسيين، وهذا يبرز في تركيز الرؤية الإقتصادية للطاقم الوزاري في تجفيف الإنفاق الحكومي واستحداث (الإنفاق الردئ) الذي يعمق من أزمة النمو التاريخية، عبر السياسات التي يعمل الطاقم الإقتصادي على تعزيزها على منصة التقشف بإعتباره الوسيلة الوحيدة (خط احمر) للمضي قدما، وهنا الرؤية الإقتصادية لاتعكس فقط مجرد خيار ايديولوجي بعيد كلية عن تصميم نموذج اقتصادي محلي سوداني بإمتياز (طاقية سودانية )، بل يمثل مطلوبات بنيوية تم تبليغها للطاقم الإقتصادي ومؤسسات السياسات الإقتصادية الخاصة بالنمو عبر أقنية تمويل مصرفية (مشكوك فيه )و (مؤقت) ،عالمية وإقليمية، هذه المطلوبات الإقتصادية تمثلت الآن في التخفيض الإنفاقي الحكومي بازالة الدعم عن المحروقات، على أن تتدرج عبر مسارات تخفيضات العملة المحلية ،وإعادة تركيب جديدة لهياكل المؤسسات، بما يجعل هذه المطلوبات في شكلها النهائي في حد ذاتها تشويها واعاقة لتشكيل النموذج الاقتصادي المحلي، وإعادة التركيب للبنية الإجتماعية، وذلك بسبب التصميم المتضارب والمتناقض لنماذجها المعرفية في خصائص البنية الاجتماعية /خصائص البنية الإقتصادية والبيروقراطية الحكومية، وخصائص التحويلات من المؤسسات الدولية ،وبالتالي رؤية إقتصادية ضئيلة يجعلها فقط ترويج مضلل لإعادة هيكلة الإنفاق والنمو، ومن ثم استحالة نفاذهما إلى قضيتي السلام والتنمية وذلك لاختلاف طبيعة المناقشة الفكرية والمؤسسات.
osmanbarci1@gmail