الاخبار

هيثم كابو : القلق والغرق !

194views

] عبرت جسر توتي في الساعات الأولى من الصباح، ونبأ كارثي جاب الأسافير معلناً عن انهيار سد ترابي في الجزيرة التي ترقد هذه الأيام على وسادة القلق، بينما خاصم النوم عيون ساكنيها، لتمر ساعات الليل طويلة ومخيفة على قاطنيها .
] لم تمنعني التطمينأت (النسبية) التي تضمنها الخبر المُفزِع من شاكلة و(يجري العمل بكل قوة لتلافي مخاطر الفيضان على الجزيرة) من التوجه لتوتي، فالرعب يسكن الأفئدة، والخوف يشق الضلوع، والنيل برغم عطائه الممتد، ومعينه الذي لا ينضب، إلا أنه لا يعرف الرحمة عندما يغضب.
] ما باله، زاد وارتفع محققاً معدلات جنونية حتى توارى منه الدولار خجلاً، فالنيل تحول إلى وحش كاسر، يغرس أنيابه، ويتنكر للأرض، ويقتلع الجذور، ويضرب الساس، وينهش الجدران، ويجرف الأثاث، ويفتك بالزرع والضرع والناس.
] ما أن وطئت قدماي أرض الجنة الخضراء قبيل السادسة صباحاً، حتى رنت في مسامعي إلياذة الفخر الشعبي باذخة الجمال؛ ودائمة التداول التي نرددها دائماً :(عجبوني أولاد الأهالي .. عجبوني وسروا بالي .. طول الليل واقفين سواري.. ترسوا البحر بالطواري .. ما شالونا باللواري)، وتأكدت حينها (بيان بالسهر) أن (عجبوني الليلة جوا) لم تكن أغنية تضخ دماء الحماسة في أوردة الشباب عندما ضرب فيضان ١٩٤٧م الجزيرة، ولكنها ملحمة تحمل جينات خلودها في الأجيال المتعاقبة التي أنجبتها رحم توتي الولود، فالجميع هناك لم يذق طعم النوم، ولا يزال يقف على أمشاط التأهب، لسد ثغور المتاريس الترابية، والنيل الغاضب يسجل أعلى مناسيب الغدر رافضاً في زمن (الخروج عن النص) الاكتفاء بالتحرك في مساحة المجرى الذي اعتاد السير فيه، فهاهو الماء يتدفق من هنا، وينكسر الترس هناك، ليهرول الشباب بمساعدة فرق قوات الدفاع المدني في التتريس، ونقل (شوالات الخيش)، ليعيد المشهد للأذهان صورة عائشة بت الله جابو أول من تغنت بالكلمات الشهيرة:
عجبوني الليلة جوا.. ترسوا البحر صددوا
عجبوني أولاد الفرسان.. ملصوا البدل والقمصان
وصبوا البحر خرسان.. من شاوش ولي برقان.
] يظل أهل توتي نسيج وحدهم، فهم يمثلون خلطة عراقة عمرها خمسة قرون؛ واستنارة منذ قديم الأزل، يجمعون ما بين تحضر المدينة وطيبة وكرم القرى، ترى في خصالهم استقامة جدهم الشيخ أرباب العقائد، وزهد الشيخ خوجلي أبو الجاز، بينما صمودهم في وجه تقلبات الحياة وغضب الطبيعة يذكرك سيرة ابنائهم الشيخ علي عبد الرحمن الضرير، والنقابي الرمز قاسم أمين، وإن كان تواضعهم الجم ورثوه من أبيهم الشيخ حمد ود أمريوم، فإن نبوغهم العلمي يمثله أبو الطب في السودان بروفيسور داؤود مصطفى، بينما يشار لتوتي ببنان الإبداع وهي التي قدمت للرياضة عمار خالد، ولعالم الفنون والغناء العاقب محمد حسن، وحمد الريح، وإبراهيم خوجلي، فاستحقت غزل ابنها الشاعر أبو شوقي مردداً:
هي درة النيل العظيم وبنته .. هي جنة محفوفة بجنان
قد مدت الخرطوم رونق سحرها .. وزهت جمالاً فوق أم درمان
ورمال بحري أشرقت بجنوبها .. كالتبر يبرق نورها الرباني
إذا وقفت هنيهة بجنوبها .. لرأيت كيف تعانق النهران
وترى على أقصى الشمال برأسها .. النيل منحدراً بكل أمان
] نعم، النيل لم يعد يا عزيزي أبو شوقي (منحدر بكل أمان)، ولكن الأوضاع بجزيرة توتي أفضل بكثير، بينما لا يزال القلق المشوب بالحذر هو سيد المشهد، فقط المطلوب منا مد الأهل بتوتي بأكبر عدد من جوالات الخيش، وأحسب أن التدافع لمساندتهم، والوقوف معهم أمر مهم، وله أبعاد شتى، فالجزيرة التي كنا دائماً ما نزورها للترويح عن أنفسنا واستنشاق هواء نقي، هي الآن تحتاجنا حقاً، فيجب علينا رد دينها، والا نكون كالمد عند حاجاتنا، وكالجزر عند حاجات الآخرين.
] التسابق لمساعدة المتضررين من فيضان النيل في كل بقعة من أرجاء السودان فرض عين، إذا قام به البعض لن يسقط عن الآخرين، والنفير يمثل قيمة سودانية متجذرة تربينا عليها، ونشأنا في كنف رحابتها، فيكفي أننا بلد مُشبع بقيم المشاركة النموذجية في أبهى صورها ”ختة العرس؛ البكا البشيل روحو؛ وعمود الأكل الماشي المستشفى للجار العيان؛ وبنيان الحيطة، وجير الصالون الما بحتاج عمال من السوق وأولاد الحلة قاعدين“ وصولاً لمعاني لخص بعضها الراحل محجوب شریف في (باب السنط) عندما قال :
ود باب السنط والدكة والنفاج .. والحوش الوسيع للساكنين أفواج .. واللمة التي ربت جنا المحتاج .. والنار الدغش والريكة جمب الصاج ..!
] قلوبنا مع أهلنا في جبل أولياء، والجزيرة، والجديد الثورة، والكلاكلة، وود رملي، وكل رقعة غمرتها مياه النيل، فتوقف نبض الحياة فيها، وشكراً نبيلاً لأهلنا في توتي الذين يقارعون عنف النيل البغيض بسلمية التكاتف الحميم.
نفس أخير
] ولنردد خلف سعاد عثمان، ومن بعدها الفنان القامة حمد الريح:
الليلة هوي يا جنا
نحنا الخير ضونا.

الانتباهة

ليصلك كل جديد انضم لقروب الواتس آب

Leave a Response

20 + أربعة عشر =