في أحدث حلقة من برنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي يشارك فيه صندوق النقد الدولي، ألغى السودان دعم المحروقات، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الوقود فورا.
وقالت وزارة المالية إن الأسعار ستتحدد في المستقبل بتكلفة الاستيراد والنقل والضرائب وهوامش الربح.
وإثر القرار الذي أصدرته وزارة المالية السودانية، مساء الثلاثاء، ارتفعت أسعار البنزين من 150 جنيهًا سودانيًا (0.35 دولار) إلى 290 جنيها (0.67 دولارا) للتر الواحد، فيما ارتفع سعر الديزل من 125 جنيها (0.3 دولارا) إلى 285 جنيها (0.66 دولارا).
وأعرب مراقبون عن مخاوفهم من أن يؤدي هذا القرار إلى ارتفاع الأسعار وزيادة الأعباء على المواطنين، ما يثير مخاوف بزيادة الغضب الشعبي وعودة الاحتجاجات إلى الشارع السوداني.
سلاح ذو حدين
ويقول رئيس “سلطة أسواق المال” السودانية، الدكتور شوقي عزمي محمود، إن هذه القرارات لها تأثير سلبي كبير على المواطن السودانيين، لأنها ستؤدي إلى مضاعفة الأسعار. وأشار إلى أن متوسط دخل الفرد يتراوح بين 80- 200 دولار سنويا، وهو ما يعني أنه لن يستطيع تحمل هذه الزيادة في الأسعار.
وأضاف عضو اللجنة الاقتصادية في “قوى الحرية والتغيير”، في تصريحات لموقع “الحرة” أن هذه القرارات الجديدة ستخلق ظروف معيشية خانقة على المواطن السوداني، مشيرا إلى أن الزيادة الماضية أدت إلى ارتفاع الأسعار 400-600% لبعض السلع.
لكن الخبير الاقتصادي، السماني هنون، يرى أن هذه الإجراءات سلاح ذو حدين. وقال إن هذه قرارات حكيمة ستعمل على إنعاش الاقتصاد، لكنها ستزيد من معاناة المواطن وأعبائه بسبب ارتفاع الأسعار الذي سيترتب على هذه الخطوة، حسب قوله.
وأضاف هنون في تصريحات لموقع “الحرة” أن الاقتصاد السوداني قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، وليس لدى الحكومة أي خيارات سوى اتخاذ مثل هذه القرارات المؤلمة، مشيدا بشجاعة الحكومة في اتخاذ هذه القرارات. وأوضح أن الهدف الآن هو انقاذ الاقتصاد من الانهيار، وتحقيق النمو على المستوى البعيد، وليس تحسين دخل الفرد.
وأكدت وكالة الأنباء السودانية (سونا) إنّ “السعر يخضع للمراجعة الدورية وفق السعر التأشيري للدولار”. وذكرت أنّ القرار يسمح للحكومة بـ”تأسيس بنية تمكن مؤسسات الدولة والقطاع الخاص من التعامل مع مؤسسات التمويل الدولية”.
وبحسب وزارة المالية، يكلف دعم المحروقات الدولة مليار دولار سنويا. وتقول الوزارة إنّ سياسة تحرير الوقود “المتأخرة جدا … كفيلة بإزالة العديد من التشوهات في الاقتصاد”. وأضافت الوزارة في بيانها أنها “وجهت بتكوين لجان متخصصة لدراسة كيفية توفير دعم مباشر لقطاعات الزراعة والكهرباء والمواصلات لتعويض هذه القطاعات عن عبء ترشيد دعم الوقود”.
ثورة جياع
المحلل الاقتصادي السوداني، عاصم إسماعيل، يرى أن هذه القرارات سيكون لها تأثير كبير على المواطن السوداني من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وستلقي بظلالها على الحياة السياسية.
وأكد إسماعيل في تصريحات لموقع قناة “الحرة” أن مثل هذه القرارات سيؤدي إلى مضاعفة الأسعار أكثر من عدة مرات، لأنها ستؤدي إلى ارتفاع عملية إنتاج ونقل السلع الاستهلاكية بين الولايات.
وذكر أن “المواطن السوداني غير مهيأ لهذه الجراحات الاقتصادية المؤلمة”. وحذر من اندلاع “ثورة جياع” خلال الفترة القادمة.
ويعاني السودان، الغني بموارد النفط والتعدين، من متلازمة الدين الخارجي، والتي تبلغ 60 مليار دولار، في وقت يعاني فيه الاقتصاد من تحديات ومشاكل كبيرة، والتي زادت بفعل تأثير وباء كورونا.
وكانت الخرطوم قد بدأت البرنامج الإصلاحي بتعويم الجنيه في فبراير الماضي. وتسببت هذه الإصلاحات المؤلمة في ارتفاع معدل التضخم السنوي حتى بلغ 363 في المئة في أبريل الماضي.
ويرى عزمي أن هذا البرنامج الإصلاحي لن يكون له أي تاثير إيجابي على الاقتصاد السوداني، لأنه يتم استبدال الديون بديون، ما يعني استمرار المشكلة، بينما يؤكد هنون أن هذه القرارات حتمية لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار، وسيظهر أثارها على المدى الطويل.
قبل الإطاحة بالرئيس عمر البشير، الذي حكم البلاد لنحو ثلاثين عاما في أبريل 2019، كان الاقتصاد السوداني يعاني تحت طائلة العقوبات الأميركية والإنفاق العسكري الهائل للحكومة على عدة نزاعات في عدد من أقاليم البلاد.
وشكلت المصاعب الاقتصادية في البلاد الدافع الرئيسي وراء الاحتجاجات التي أدت للإطاحة بالبشير. لكنّ بعد أكثر من سنتين على إطاحة البشير، لا يزال كثير من السودانيين يضطرون للاصطفاف في طوابير لساعات من أجل الحصول على الوقود والخبز.
وتأمل الحكومة الانتقالية أنّ تساعد الإصلاحات القاسية التي تنفذها في أن يصبح السودان مؤهلاً للحصول على مساعدات بموجب المبادرة لصالح البلدان الفقيرة المثقلة بالديون التي تسمح بتخفيف ديونها. حيث لا يمكن إعفاء بلد بالكامل من الديون إلا بعد وفائه بالتزاماته بتطبيق الإصلاحات.
عودة المظاهرات
وفي المؤتمر العالمي الذي نظمته فرنسا لدعم السودان في منتصف مايو الماضي، وشارك فيه نحو خمسة عشر من زعماء دول أفريقية وأوروبية وخليجية ومنظمات دولية، وعد المجتمع الدولي بتخفيف ديون الخرطوم لدعم العملية الانتقالية.
وأعلنت فرنسا شطب 5 مليارات دولار من ديون السودان، كما أكدت ألمانيا أنها ستلغي 360 مليونا. وتم سداد متأخرات الديون السودانية لبنك التنمية الإفريقي بواسطة قرض من السويد وبريطانيا وأيرلندا قيمته 425 مليون دولار في حين تم سداد المتأخرات المستحقة للبنك الدولي بفضل قرض أميركي قيمته 1.1 مليار دولار.
وتوقع رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، في مقابلة مع فرانس برس إعفاء بلاده من ديونها الخارجية البالغة 60 مليار دولار بنهاية العام الجاري.
وقال حمدوك، الخبير الاقتصادي والأمين العام السابق للجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة، أن الخرطوم وصلت في محادثاتها مع صندوق النقد الدولي إلى “نقطة اتخاذ القرار وأتوقع أن نغلق ملف الديون بنهاية هذا العام”.
لكن تتزايد المخاوف من أن تؤدي هذه الإصلاحات القاسية إلى اندلاع احتجاجات جديدة في الشارع السوادني. وأكد عزمي أنه بالفعل بدأت تحركات بين قوى الثورة للخروج في مظاهرات خلال الأيام القادمة، احتجاجا على هذه القرارات.
وأضاف إسماعيل أنه بدأت تظهر دعوات بين القوى السياسية تطالب بإسقاط الحكومة الانتقالية. وأشار إلى أن “الشعب أصبح يطلق على هذه الحكومة اسم حكومة الجوع”.
لكن هنون يرى أن هذه الاحتجاجات ستكون محدودة بسبب تراجع قدرة القوى السياسية على تحريك الشارع، مؤكدا أنها لن تسطيع أن تلغي هذه القرارات أو تسقط الحكومة، لأن الشعب أصبح يدرك أهمية هذه القرارات المؤلمة لإنقاذ الاقتصاد السوداني، على حد قوله.
الحرة