في عمر الخامسة تقريبا والعيد ينفح طرقات مدينة الدلنج بذلك العبير المميز والناس تروح وتغدو الى سوق مدينة الدلنج العتيق ،تبعت ابي “رحمة الله عليه” وانا اجر رجلي جراً محاولاً اللحاق به واخي سليمان بعد ان قمنا بشراء مسلتزمات العيد التي كفاها مرتب ابي وزاد ما سيضعه بين يدي أمي لمجابهة مصروفات مقبل الايام.
وملابس العيد للاطفال حينها كانت جلباب وشبشب للصلاة، لبسة افرنجية بحذائها للزيارات وبيجاما للمنزل ،اي والله كل هذا كان للعيد فقط، دلفنا إلى المنزل، عرضنا غنائمنا علي بقية أفراد الأسرة وانفردت انا بملابسي، كنت قد اخترت حذاءً ماركة باتا على ما اذكر، وضعته تحت سريري لأتلمسه بين الفينة والاخرى كأنما هنالك من يتربص به لسرقته ، بين الصحو والمنام اتاني صوت المذياع صادحا برائعة الراحلين صلاح بن البادية وابو آمنة حامد : (وشوشني العبير) ،الصوت يرن في أُذني ساكباً شلالات الحنين التي أكاد أتلمسها وانا احس بحركة امي الدؤوب ما بين غرف المنزل والمطبخ لإعداد مطلوبات فطور الغد وحركة أبي وهو يروح ويغدو بين جنبات المنزل ململماً شتات ما فعلناه طوال النهار ليصبح المنزل لائقا بزوار العيد، والحال هكذا غفوت قبل ان تكتمل الاغنية. منذ ذاك الحين بقي بين جوانحي لحنها سارياً حنيناً يهدهد أحلامي ويُعيدني الى ذاك الزمن الأنيق فأبكي ما استطعت من البكاء وأُفرغ دمعي غير عابئ بمن يراني. هذه الأغنية وطقوس الأستماع اليها تعتبر ملجأ خاصاً بي أنزوي اليه مستلهماً حنين الدفء في منزلنا العتيق بين أبي رحمه الله وأمي وإخوتي قبل أن تفرقنا الدنيا ايدي سبأ.
بالتأكيد لكل منَّا لحنٌ يهدهد جوانحه واغنية تسكب الحنين بين حناياه فيصبح رقيقاً شفيفاً تدمع أعينه بلا استحياءٍ ولا خجل، هو ما تفعله الأشعار المغناة، كونها تصويراً لحال لا يبقى حكراً على صاحب الكلمات أو اللحن بل لكل مستمع له قلب تتقطع نياطه عند استحلاب الحنين من ثنايا الذاكرة عبر الشعر والالحان.
رحم الله القامتان ابو آمنة وإبن البادية بقد ما قدماه من ابداع هو الوسادة التي يتكئ عليها المكلومون لاجترار الذكريات والبكاء من فرط الحنين.
ثم ماذا بعد ؟
هكذا مضى زماننا بشعره والحانه وابداعه وابعاده ،بالمغنيين والشعراء والساسة وبكل أنواع النجاحات والاخفاقات وما زال بعضنا يحمل الراية رافضاً تسليمها للأجيال التي تلينا والتي من حقها ان تحكم وتتحكم في مفاصل حياتها وتفاصيل ما يحدث بوطنها ونحن ما علينا إلا إجترار الذكريات والبكاء على الاطلال من فرط الحنين ونغني مع المغني….. وشوشني الحنين فانتشيت