عبد القادر حيدر ، المجرة
لم يكن من القرارات الخطيرة تلك التي تنضوي تحت مسمي (قرارات مصيرية ) ، ان تذهب (للمخبز) لشراء خبز يومك لاطعام صغارك. لكن في ذاك اليوم كان قراراً يندرج تحت مسمي ( حياة او موت ) ، من الطبيعي أن تخرج من منزلكم لشراء طعامك و تعود حيا .. في تلك الايام لم تكن سوي مقاييس القهر و الاستبداد و التشبث بالسلطة هي السائدة ، تلك المعايير التي توجب اعدام كل نسمة تمنحنا الحياة ، هكذا كان الامر ، خرج مبتهجا – تلك البهجة التي ظلت صفته التي برع في توزيعها علي الطرقات و المارة – خرج يرتدي ابتسامته الشهيرة محتفيا بالحياة و العيد الذي يرفرف باجنحته مجتهدا في طرد رائحة الدماء التي عمًّت الأرض ، لم يكن يعلم انها ابتسامته الاخيرة ، فالرصاصة كانت تستعد لقطفها دون ان تكلف نفسها عناء التفكير في كل اولئك الذين سيفتقدونها ، ببساطة تحول العيد لشيء آخر تصعب تسميته ، خرج “كمال شرحبيل” يرتدي لبوس الفرح و ارتقي و وهو يتدثره ، لم يكن الحزن غريبا علينا ، ألفناه و تعايشنا معه منذ الميلاد ، الغريب ان تعود الحياة كما كانت بعد ان مضوا ، الشهداء ، بابتساماتهم التي منحتنا القدرة علي الاستمرار ردحاً من المعركة ، ببسالتهم التي عبدت الطريق ، الغريب ان نعود نحن كما كنا . أستعد ” كمال شرحبيل “ للعيد فتقبل التهاني في الجنة . لم نهده تهانينا و لكنَّه احتفل عندما هزم الموت بالخلود. صار حالنا كما صور الفاتح باباي :” في اثناء تسكعي وجدت جدارية مرسوم عليها أحد شهداء الثورة ، توقفت ونظرت اليه مليا ، تبسم في وجهي ، فترحمت علي روحي !!”
أخبرني أستاذنا الكبير التجاني حاج موسي؛ صديق الشهيد وهو يغالب دموعه ” هو شرحبيل التجاني القاضي، من مواليد العرضة شمال، ترعرع فيها و اتم دراسته بها، عمل موظفاً بشركة اوكتومايو ومنها انتقل للعمل بشركة الحبوب الزيتية حتي أصبح مديرا للعلاقات العامة الوظيفة التي ظل بها حتي تقاعد. أجاد الفقيد الغناء و ظل يحيَّ الحفلات حتي هجر الغناء وتفرغ لعمله الخاص و نشاطه الثقافي . تأثر في مسيرته الغنائية بصديقه الراحل المقيم الفنان الكبير زيدان ابراهيم كما ارتبط بصداقة كبيرة مع الهرم الغنائي ابراهيم عوض.
كان الفقيد ناشطا ثقافيا وافر النشاط من خلال ادارته لمنتدي الحروف؛ ذاك المنتدي الذي يشكل شامة في جبين الحركة الثقافية السودانية والذي يضم نخبة من أعلام الحركة الثقافية في السودان. حرص الفقيد علي اقامة المنتديات واثراء النشاط أكسبه حب الجميع واحترامهم. رحم الله الفقيد وتقبله في علييين و أسكنه العلا من الجنة.”
قال سهل الطيب :” يوم خمسة وعشرين رمضان جاني خاشي في الدكان وسلمت عليهو قال لي يا أستاذ سهل الليلة جايي عديل أتونس معاك في الحقيقة أنا قاعد أستحي لما يناديني بكلمة “استاذ” دي لأنو رغم الفارق العمري والثقافي الكبير بيني وبينو برضو ماقاعد اسبق اسمو بكلمة أستاذ لأني بحس إنها كلمة شترا وتوصيف فارغ .. ببساطة كدة بقول ليهو ياكمال شرحبيل إسمو راقي وفيهو موسيقى وقريب من القلب .. مثلاً؛ صاحبو وفردتو أستاذ التجاني حاج موسى؛ اتعودت وخلال معرفتي بيهو أسبق إسمو بي استاذ التجاني لكن “كمال شرحبيل” دا بالتحديد مابحب أشوه اسمو الجميل باستاذ ولا أي حاجة. كمال شرحبيل أنا عرفتو عن طريق استاذ التجاني حاج موسى، التجاني معرفتو بكمال تمتد لعقود من الزمان، لكن ميزة كمال شرحبيل إنه معرفتو للمرة الاولى بتكنس الزمان والمسافات، تخليك كأنك بتعرفو من أيام الروضة لأنه إنسان شفيف، يوم خمسة وعشرين رمضان؛ بعد ما اتبادلت معاه السلام طوالي سألتو من عمنا الشاعر إبراهيم الرشيد وعن صحتو وطوالي كمال قال لي أسمع ما انتهينا من تسجيل الحلقة في منتدى أبناء أمدرمان و …….. وأنا ضحكت وقلت ليهو الظاهر عليك ياكمال خرفت هسة قبل كم يوم ماحكيت لي القصة دي؟ وإنو كان معاكم مختار دفع الله، وبدر الدين حسني كان ماسك الإخراج، وإنت سقت إبراهيم الرشيد بي عربيتك ورجعتو البيت. علاقة كمال شرحبيل بابراهيم الرشيد كانت زي العلاقة الأبوية لأنه كمال كان من الناس البتفقدو إبراهيم الرشيد على الدوام .. كمال نجح في المنتدى الاتعمل في بيت ابراهيم الرشيد، كان من المنتديات الصغيرة والأنيقة، لسة بتذكر إنه يوم المنتدى كمال شرحبيل بكون مشغول من الصباح، لما نمشي المساء أنا ومختار دفع الله وعوض كسلا بنلقى المكان إتزبط تمام التمام والشلة اتجمعت وعربية التجاني حاج موسى واقفة مع الباب وفتحي حسين بوزن في العود عشان نطلب منه يغني لينا العزيزة الما بتسأل عن عيونها، عائشة موسى منسجمة مع غناها ومجموعة من الشباب البزورو المنتدي مرة مرة ومهتمين بالثقافة والغناء السوداني دايماً إبراهيم الرشيد بكون صامت ومبتسم لأنو بحب يسمع الناس أكتر من مايتكلم وكأنو بمتص كل الكلام الحولو ودايماً أنا بكون مُصِر أسمع غنا كمال شرحبيل وبالتحديد لما يغني للجابري ودايماً كنت بضبط كمال شرحبيل بالجرم المشهود لما يمد يدو للباسطة ويحاول يسرق قطعة بطريقة غير فنانة أبداً ولما عيونا تتلاقي يأشِر لي ويقول (والله قطعة واااحدة يا أستاذ سهل ونفسي خشت فيها) حتى في اجتماعات منتدى الحروف في بيت الماحي سليمان أو الملتقى الإجتماعي دار ابناء أمدرمان كنت بلتقط كمال شرحبيل وهو بيسرق قطعة باسطة صغيرة ويغمض عيونو وهو بيهرس فيها باسنانو ويستمتع بيها رغم مرض السكري العنيد كمال شرحبيل لما يمسك العود ويبدا العزف بيكون هو والعود قطعة واااحدة ومن الصعب تميز بيناتم لأنو الإحساس بكون عالي ودا بخليك تشوف كمال والعود قطعة واحدة ملصقة مع بعض وكأن كمال شرحبيل ماسك الريشة وبعزف على صدرو مباشرة وكأنو بهبش في ضلوعو ويهتز من الطرب سواء بغني براهو أو بيعزف للتجاني حاج موسى ودايماً بتحصل وقفات صغيرة والتجاني ينتهز أي فرصة عشان يشاغل كمال شرحبيل ويكاويهو ودي عادة بيناتم الإتنين وإبراهيم الرشيد يضحك في الحوار دا بدون مايتكلم كمال كان صدرو بيعلو وينخض مع الغناء والعزف كأنو بيقيس كل إحساس جواهو كان صدرو رحب وملان حب للناس وللرفقة الجميلة الحوالينو وكان كلو شوية يمشي على الناس عشان يتأكد إنو أي زول ضرب شاي اللبن باللقيمات الجايبة من البيت أو الباسطة المن حلويات شريف قال لي شنو قال ــ كمال شرحبيل إنضرب طلقة في شارع العرضة ــ كمال إنضرب طلقة ــ أيوا … الطلقة جات في الصدر ولا أسفل شوية ناحية البطن ماعارف .. المهم إنضرب طلقة قدتو ومرقت بي غادي ــ يازول إنت بتتكلم كيف .. كمال صدرو مابتاع طلقات ولا حاجة .. كيف يكون إنضرب طلقة ــ دا الحصل والكلام دا كان يوم 27 رمضان وكان مرقدنو في مستشفى الأربعين وهسي حولوهو لمستشفى الشرطة دا شي غريب جداً والله وكأنو الإنسان بقى ما أسمى المخلوقات ولا حاجة .. مهما كان طيش الرصاصة لكن صدر كمال شرحبيل ما للدرجة دي .. كمال ينضرب نار كيف وهو الزول المتخصص يطفي نيران الناس البعرفهم .. كيف رصاصة مهما كان الجن الراكبها تخش في كمال شرحبيل .. معقولة الصدر الكان برتفع وينخفض لما يعزف العود ولما يغني للجابري ويحكي ليك ألف حكاية عن ابراهيم عوض والمشاوير المشوها سوا والرفقة العاشت سنين وسنين .. معقولة دكانو الجمب استاد المريخ وكمال باشري والماحي سليمان وبشرى سليمان … طيب وعركي والتجاني حاج موسى وابوقرون ومختار دفع الله وشكر الله خلف الله والزحمة بتاعت المبدعين الكانو بيركلسو مع كمال شرحبيل ومرات القعدة دي كلها تتحول لحدي دكاني عشان نضرب الفول والشاي السادة طيب وإبراهيم الرشيد وأخوهو برعي وفاطمة موسى وهلاوي أنا مشيت يوم الجمعة زرت كمال شرحبيل في مستشفى الشرطة وكنت عايز أعتذر عن التأخير الغير مناسب لكنو غيّر الموضوع وفضل يحكي لي عن حي العرضة في الخمسينات وعن الراعي البجي يسوق الغنم وسوق العرضة والخلا وكنا بنضحك بصورة جنونية رغم إنو درب الدم كان بنقط نقطة نقطة وكل ما اعاين للدرب يقول لي خليك منو وقال لي عابدين عوض كان مقيل معاي امبارح وعابدين عوض هو لقب التجاني حاج موسى وقلت ليهو أها عابدين طلّع الفُوط الأربعة قال لي أيوا .. فوطة الوضو وفوطة الوش والفوطة التانية وضحكت وقلت ليهو معناها التجاني قيل معاك قييلة أصلية قال لي كمان قال كتب عني في الجريدة وعليك الله أمشى أقرا كتب شنو أنا بعد ماطلعت من كمال شرحبيل نسيت أمشى أشتري الجريدة لأني كنت فرحان إنو حالتو كويسة عال العال وممكن بعد مايعملو ليهو العملية الصغيرة يخرجوهو ومشيت بيتو يوم السبت بعد ماصليت الضهر إتصل علي مختار دفع الله وماقال كلام كتير (كمال شرحبيل إتوفى) الموت حق ياجماعة لكن ما لدرجة يموت برصاصة في شارع العرضة وهو ماشي يجيب الرغيف دا ماشكل زول يموت بالرصاص ما أظن في يوم كمال فكر في حاجة عندها علاقة بالذخيرة الحية والبندقية المحشية موت هو زول سلام وحب وطمأنينة بس لا غير مشيت بيت ناس كمال شرحبيل ولاقيت مختار وهلاوي وجا أنس العاقب وإنخرطو التلاتة في حلقة بكاء ثلاثية وثقيلة وأنا واقف مشدوه وبعد شوية وصل التجاني ودكتور كمال باشري وسألتهم هل الوفاة طبيعية ولا خطأ في العملية وقالو لي طبيعية وتاني سألتهم عن الناس الكانو معاهم وذكرو لي مجموعة أسماء من ضمنهم عركي وقالو لي عركي منهار وشالوهو ودوهو البيت وعاينت للتجاني وقلت ليهو (هسي عليكم الله يعزوكم كيف ويقولو ليكم شنو … أخير نسكت ومافي حاجة ممكن تتقال) دي كانت أول مرة أقول كلمة (المرحوم) كانت كلمة ثقيلة ومخيفة لدرجة إستعنت بسمكرجي اللسان عشان تطلع .. زول كان معاك أمبارح القريبة دي وتجي تاني يوم تحرِف إسمو التحريف الكبير دا وتسميهو المرحوم … آآآه من حال الدنيا الغدارة … على العموم الموت دا هو الحركة الوحيدة العملها كمال شرحبيل طيلة معرفتي بيهو وماعجبتني .. زول يقول ليك إحتمال كبير يخرجوني من المستشفى بعد يومين وياخد اللفة الطويلة دي .. شي عجيب يادنيا كنت عايز أخت إيدي في كتفو وأقول ليهو (ياخينا الموت مافلاحة .. سامعني .. الموت مافلاحة .. بعدين إنت موتك دا ماموت دُغري يا أخوي أنت قديت سلك وإتخارجت بالخفيف .. فهمتني مش كدة ) لكن أرجع وأقول هو القدر المسطر علينا كلنا مهما طالت أعمارنا لو كان كمال شرحبيل مجرد فنان أو شاعر كان ممكن نشيل إنتاجو ونعبيهو في فلاش ولا في شرايط كاسيت لكنو كان إنسان … إنسان بسيط جداً وجميل لدرجة لا يمكن تصورها .. شفافية ورقة وتهذيب وأدب ودا خلاهو مامجرد فرد من مجموعتو ولكن كان عبارة عن عجينة عجيبة بتنصهر فيها كل المجموعة ومغنطيس يلم كل الأطياف حتى لو كانت متنافرة وبينها فجوات يمكن عشان كدة أنا قلت لي هلاوي (تعرف يا استاذ بعد كل الأحزان الحضرتها معاكم كنت عارف إنو كمال شرحبيل هو الشخص الممكن يورينا الخطوة الجايا نعمل شنو … هسة أنا ماعارف الخطوة الجاية حاتتعمل كيف.)
هولاء رجال عرفوا كيفيفة هزيمة الموت بحياتهم و بالقطع هزموه بارتقائهم شهداء ، منحو واقعنا نكهة ولون ثم ارتفعوا الي حيث ينتمون ،الي الجنة.
•