الملف الثقافي

كف ريحٍ عاجلة .. رؤي حسن

922views
صحوت على سرير أزرق، وملاءة زرقاء، أصابتني بالنعاس مجددا، وجدتُ أناس كثيرون لا أعرفهم يحومون حولي، وآخرون يجلسون بتمحن، لم أعرف عمن أبحث، ولكني إشتهيت أن أعرف أحدهه فاسأله عن أمي، أبي، وما الذي جعل سريري عالياً هكذا؟ وما شأن تلك الوصلات المغروسة بأوردتي؟ وددت أن اسأل عن الريح الهاربة، هل نجت؟! وهل الفتيات في كفها أم وقعن؟
غريبٌ أن ينقلب المأتم إلى عُرس؟ وهذا ما شهدته بعيني، انقلبت غرفة المشفى لصالة ضخمة، الزغاريد تنتشر بكثرة، جميعهم يباركون لي سلامتي ويحمدون الله، من بين الحشود لمعت أمي بعينيها، ورأيت لحية أبي تعافر لعناقي.
قال الطبيب : حمدا ًلله على سلامتك، يمكنكم العودة للمنزل حال انتهاء باقي المحاليل الوريدية، ولا داعي لأي إرهاق جسدي أو ذهني.
أخبرتني أمي أن أحدهم وجدني مغمى علي، حافية عند نهاية الجسر، مُغطاة بكومة قش، فأخذني للمشفى آملاً نجاتي، وطامعاً في فضل الله.
على طول الممر المؤدي للخارج، كانت الأسرة ملأى بجرحى ومصابين، النزف لا يتوقف، البكاء يصحبه أنين صاخب، الموتى مدثرين بأقمشة ملوّنة بالأحمر، الأزرق والأصفر، غرف الإنعاش امتلأت كما أخبرنا أبي ونحن نعبر من باب الخروج.
أخبرتهم أن يد الريح عاجلة، و خفة ساقي وحدها لم تكفِ، لا أذكر الكثير، ولكن عند مداهمة الموت لنا، أصابنا ما أصابنا، فجزعنا! شققنا صدورنا بالصراخ، كنتُ بعباءة فضفاضة وفزع كبير أجري صوب البندقية، طمعاً في الفرار، لا سبيل لتبرير هلعي حينها، لقد رأيت رجل ذو لحية بيضاء، يُجلَد كشيطان مارد، بسيطان ملويّة وأخرى منتصبة، فماذا بي أنا التي تُبكيها شوكة في طرف إصبعي الصغير يا أمي؟
وقتها تشابى لأذني قول أحدهم : ” إنها علمانية” وآخر يتعثر لسانه بالحروف يقول ” دي ….. ساكت” ، كأنه يقصدني، حاولت أن أشرح لنفسي المعنى والمقصود به ولم أفلح، جريت نحو بندقيته بإندفاع ثم حدت عنه يساراً بخفة لم أعهدها في جسدي الثقيل قط، صادفتني إحداهن تبكي وأنفها ينزف، دارت الأرض كثيراً حتى أصابني الغثيان، تقيأت أشعار الحرية، وهتافات السلام، خرجت من أنفي أنفاس مصطفى وحميد التي سكنت صدري، عرفت أني أموت لا محالة، خماري الذي لن يفارقني سيذاع في الأخبار غدا، أنه خانني ولم أعرفه يوماً.
كله لا يهم، لو نجوت سأخبر العالم أن البندقية التي صُوبت نحوي لم تكن ترتدي سراويلها، وأن الدماء التي غسلت المطر لم تخرج كلها من الأنف، سأخبر ولو القليل، لأن لا أحد سيصدقني، ربما يصفني أحدهم ب” المجنونة”، وسيتصدق علي بعضهم بدعوات زائفة هي في الأصل لوم وشماتة، ورغم ذلك سأردد ” آمــــيــــــــــن”.
المرأة التي ولدت حديثاً، أجبرت القابلة أن تدفن الطفل مع المشيمة خوفاً عليه، ولطالما كانت بقربه وتحتويه التسعة أشهر، يحق له أن يبقى بجانبها ولا يفارقها، ودعته قائلة :” هي دائمة وأنا سأفنى بعد قليل، كن صبوراً يا ولدي ” .
الأطفال أمامي كأن العالم أستفرغهم هنا وتبرأ منهم، كومة كبيرة من الصراخ، دموع لا تنتهي، وأنا يزداد هلعي كلما مررت بأحدهم، أسائلهم أين أمهاتكم؟ من أين جئتم؟ ما الذي يبكيكم؟ وإجابتي عندي أخمنها، أنهن قد سِيقَن لتُتسلَق سيقانهن بعيداً عن الجبال والأشجار اليابسة.
كنت أقول يا أمي كلما اتصلت بي :” لست في وضع يسمح بالإجابة”، وأبي يُرسل الرسائل تترى ويعجز إصبعي عن الرد، وأنا كلما وطأت بقدمي تراب طار الدم في عيني، أحسست أن الأرض كلها تتكئ على جسدي، كلُّ الأنهار تصب في عيني، قابلت فتيات أطلقن للريح سيقانهن، وفتيان تبعثرت كرامتهم، يجمعون ما خطفته الريح، شعرت بالدوار أكثر من أي وقت مضى، ونمت على كف ريح هاربة.
على باب منزلنا عُلّقت أعلام، تعالت هتافات، الأيادي تتشابك لتصافحني، وصفوني ب”الكنداكة”، بعضهم أخذوني على محمل الشفقة، وأحيانا على كتف البطولة، علّقوا صورتي في أول الطرقات، ظهور الحقائب، وعلى حواف القلوب، ومازلت أستجدي الزمان يعود برهة، لأخطف البنادق وأعبئ صدري بالموت والدخان.
( سأقول يا أمي بالكتابة، نطقي عجز، وتفكيري شلل دائم، أخبريهم أن صمتي كله يفهمونه، ورغبتي بالموت محض نجاة.)

ليصلك كل جديد انضم لقروب الواتس آب

Leave a Response

20 − 7 =