بقلم الضاوي نوار في رثاء ابنه د مهند:
مهند قدم لأيرلندا عام ٢٠١١ بدأ رحلة التخصص فى جراحة القلب بمستشفي بلفاست الملكي بايرلندا.
قال د. الضاي النور”تلقيت خبر وفاة ابنى الكبير مهند فى بلفاست ، بدأ يعانى منذ إسبوعين من أعراض نزلة برد و نصح بالحجز المنزلى، بعدها حجز نفسه بالبيت و رفض عمل الفحص للكرونا و اخبرنا بأنه يتحسن ، منذ الامس ، انقطع إتصاله بنا” و تابع “وصلني نبأ وفاته قبل قليل ، أنا الآن فى حالة لا توصف .. لن أستطيع تقبل مكالمات ، و احتاج لأن أحزن لوحدي”
وبعد ان خرج من هول الصدمة قال الوالد المكلوم:
“كان حلواً ، كان لامعاً ، كان مضيئاً ، كان متميزاً فى فصله ، كان ممتعاً ، كان موهوباً يعزف الجيتار ، يلعب كرة السلة ، كان بطلاً فى السباحة ، هوايته القفز من الطائرة و السباحة فى السماء ، كان كريماً ، ذراعه واصلة لأهله حتى الدلنج ، كان سخياً و هو فى الثانوي رأيته يحمل لأخينا عبدالله استشاري النفسية جوالاً من السكر ليصعد به الى الطابق الثالث ، رفض أن يحمله عبدالله معه ، وضعه على ظهره و ترنح به للطابق الثالث ، كان متواضعاً حتى الارض ، كان شجاعاً ، حينما أفتتح برنامج الخدمة الوطنية و عزة السودان ، وجدت بين أصدقائي أكثر من رتبة فريق لإعفائه من الالتحاق ، لكنه آثر الانضمام للخدمة وكان منفتحاً حتى للالتحاق بالمجاهدين فى أحراش الجنوب ، إجتهد لدخول الجامعة بالقبول العام ، و تخرج فخوراً من جامعة الجزيرة ، حاولت إثنائه عن عالم الجراحة ، فاجأنى قبل دخول فترة الامتياز بالنجاح فى الجزء الاول من امتحان زمالة الجراحة و نجح فى الجزء الثانى بعد إكمال الامتياز مباشرة ، كنت متردداً فى ذهابه لاوروبا ، لكنه سافر ليقضى ستة أشهر فى الجراحة العامة ثم جلس منافساً لعشرين متقدماً لجراحة القلب اغلبهم من الأيرلنديين و فاز بالمقعد الوحيد ، و ظل اول الحاضرين و آخر المغادرين من المستشفى .. تمت ترقيته بسرعة من سنيور هاوس اوفسر لريجيسترار ثم لسينيور ريجسترار ، و اختار موعده للجلوس للامتحان النهائي فى اكتوبر القادم .. عاد من الإجازة للعمل وكنا معه ودعانا لزيارة مستشفاه ، على بوابة الدخول همس لأمه مازحاً أن أغمضى عينيك ، كانت عودته تثلج صدر كل سودانى ، ممرضين و ممرضات ، فراشات ، عمال ، موظفين و زملائه نساء و رجال ، لم يسلم على أحد بيديه ، بل تلقفوه عناقاً ، سعدت يومها كسوداني ، و قولة الازهرى المشهورة (أتيناكم بصداقة الشعوب)
كان صديقاً لي قبل أن يكون إبن ، و لا يمتعنى شئ مثل الجلوس إليه ، تعلم المشي على يدي ثم ركوب الدراجة ، تعلم قيادة السيارة و عمره ستة سنوات ، تعلم على يدي طلوع الأشجار و ركوب الدواب لم أكن أخشى عليه غير يوم مثل هذا !
مهند كان روحى و طموحى لتحقيق كل الأشياء التى لم أتمكن من تحقيقها .. فالفتى يملك أكثر من كل قوة أمتلكها أنا ،كان يمتلك الصبر و الذكاء ، الجرأة ، و الطموح .. ما زالت ترن فى أذنى كلمات والدته يوم أن كنا نودعه للسفر للأردن للامتحان ، قالت نذرها زغرودة له إن وفقه ربى ، لكن حينما نجح فى إمتحان الجزء الثانى من زمالة الجراحة ، فعلها و كأنه فى رحلة ، نسيت المسكينة الزغرودة و تحدثت عن أشياء يخشى الناس ذكرها ( جنى فراق ) ( العين ) و لا حول و لا قوة إلا بالله .. ومن بعدها صار ملهماً لأخوانه و أتاهم بمقوله ظلو بعد ذلك يرددونها ، بأن لا يتجرس أحدهم و هو يخوض امتحاناً بل أن يتنبّر ( أنا الشابة أخت الشاب و أنا الشاب اخو الشاب ) لم يتذكرو والدهم الذى خاض عشرات الامتحانات و فى اركان الدنيا الاربعة ..
لم أتخيل حتى فى أحلامى الجامحة و أحلك مخاوفى أن يأتى يوم التفت اليه و لا أجده ..
كنت فى المستشفى لإسعاف مصابي حادث و المصابون أبناء لصديق ، رن جوالى و الاتصال كان من ايرلندا ، لم استطع الرد عليه ، لكن الهاتف لم يتوقف ، و لأن مهند ما زال يعانى من الأعراض ، وجدت فرصة من بين زحمة الانشغال بإسعاف المصابين لأتلقى المكالمة ، و يا لهول ما تلقيت ، تنمّل جسدى ولم أدرك لحظتها هل أنا إنسان أم آلة فأمامي أرواح آدمية على المحك ، ينبغى إن بقى معى عقل أن يكون لها ، لكن ضاع الزمن ، لم أدرك كم من الوقت مضى ، أكملت إسعاف المصابين ( و تلك يا سادتى هي حياة الطبيب ، لا يهم إن كان مريضاً او حزينًا أو مفجوع ، فأمامه واجب عليه أن يؤديه ، و اعجب للاعتداء على الاطباء فى بلدى ) ثم صرت أنا لست أنا ، مجرد مسخ يغلبه المشى ، يحاول جاهداً أن يضع قدماً أمام الأخرى تحاشيا للسقوط ، لم أصدق أنى وصلت السيارة ، لكن تبقى التفاصيل الصغيرة ، فتح باب السيارة ، و القيادة ، كل الأشياء تبقى فوق القدرة ، و كأن السيارة ستفلت منى و تصطدم بالمبانى حولها ، بوابة السكن الداخلية أوسع من اربعة أمتار ، كانت محنة كيف أقود من خلالها بل كيف أوقف السيارة ، ثم الباب الخارجي للمنزل و الباب الداخلي ، و كيف أكسر الخبر لوالدته ، التى لم تصدق ، و يا وجعها ، كان حبيبها و رفيقها و روحها .. كانت إذا عانت من أي شئ يحملها بين يديه ليضعها على الفراش ، بل كان يحملها و يدور بها دون سبب فقط من باب المرح و الإحتفاء ، و كم من مرة حملنى أنا على يديه أيضاً حين تنتابني آلام الظهر فى وقت لا احتاج لغير أن أتكئ عليه !
مالك يا مهند قطعت قلبى و كسرت ظهرى ؟
مالك يا مهند تركت لي أياماً وددت فيها أن أغمض عيناي و لا افتحها مرة أخرى فلا سبيل للقياك غير ذات الدرب ..
و لا أقول إلا إنا لله و إنا إليه راجعون ، رحمك ربى رحمة واسعة يا مهند ورضي عليك .. فوق رضائنا عليك و بلا حدود ..”