قبل 200 عام تحديداً في يوليو 1820م أكمل محمد علي باشا حاكم مصر في إطار الدولة العثمانية إعداد جيش كبير تألف من الأتراك والألبان وغيرهم لغزو السودان لهدفين أساسيين وهما جلب المقاتلين الأشداء والذهب؛ فالرجل كان طموحاً ويريد توسيع نفوذه وحكمه المستقل بشكل شبه كامل عن الدولة العثمانية، وهذا يقتضي جنوداً بمواصفات معينة لم ير أنها متوافرة لدى جنوده، كذلك كان يحتاج للمال، ولذا قرر الاتجاه جنوبا وغزو السودان حيث الرجال والمال وتم له ذلك في عام 1821.
وفي الحقب التاريخية اللاحقة تعزز الاهتمام بالجندي السوداني، فقد عرف عنه شراسة القتال وقوة الصبر، فشارك الجنود السودانيون في حروب عديدة مثل الحرب العالمية الأولي. وفي الحرب العالمية الثانية شاركت فرق سودانية في معارك بالمكسيك، كما شاركت في عدة عمليات خارجية وداخلية انتهى بعضها بدحر العدو كما حدث للإيطاليين عندما حاولوا احتلال مدينة كسلا شرقي السودان، وألهم ذلك الانتصار رئيس الوزراء البريطاني تشرشل حينئذ وجعله يعدل عن الاستسلام للألمان كما صرح بذلك لاحقا. وفي حرب أكتوبر 1973، أرسلت الخرطوم قوة قوامها لواء مشاة إلى سيناء.
حاليا تشارك قوات سودانية في حرب اليمن ضمن ما عرف في البداية بعملية عاصفة الحزم التي أطلقتها السعودية تحت غطاء تحالف دولي شكّل في 26 مارس 2015 بهدف مُعلن وهو إعادة الشرعية اليمنية، لكن هذه الحرب تحولت اليوم إلى مستنقع رمال متحركة، وحينما تصدع التحالف وتوالى خروج العديد من الدول طالبت السعودية الخرطوم في عهد الرئيس البشير بزيادة عدد القوات السودانية حتى بلغ نحو 8 آلاف جندي. وأعلن رسميا لأول مرة مشاركة ما يعرف بقوات الدعم السريع وهي قوات ذات طبيعة شرسة تستخدمها الخرطوم للقضاء على متمردي دارفور حيث حققت انتصارات مشهودة.
وبعد سقوط نظام البشير في أبريل 2019 ورغم تساقط مشروعية المشاركة السودانية في تلك الحرب العبثية استمر النظام الجديد بقيادة الجنرال عبدالفتاح البرهان في توريط الجنود السودانيين في المستنقع اليمني لأسباب اقتصادية، فقد ظلت البلاد يعاني من تدهور اقتصادي مستمر منذ 10 سنوات تاريخ انفصال الجنوب الغني بالنفط الذي كان يشكل قبل الانفصال أكثر من 95% من موارد البلاد.
في الوقت الذي تتكبد قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر في شرق ليبيا خسائر جسيمة اتجهت أنظار حفتر وداعموه نحو السودان لمده بالمقاتلين، خاصة أن حالة العداء المستحكم بين حفتر ونظام البشير السابق لم تعد موجودة وأصبح الطريق ممهدا لصفقة ما طالما هناك استعداد من جانب الخرطوم ممثلا في قوات الدعم السريع. ومما يساعد على ذلك نجاح قائدها محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي في الصعود سريعاً بعد سقوط البشير ليصبح الوجه الأبرز سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
ولن تكون الصفقة هذه المرة معلنة لاعتبارات كثيرة، إلا أن المؤشرات تشير لاستجابة حميدتي للمشاركة إلى جانب حفتر. وقد ذكرت صحيفة “ليبيا أوبزيرفر” أنه بالفعل طلب من حميدتي إرسال تعزيزات عسكرية إلى ليبيا، لدعم هجوم حفتر على طرابلس. وهناك معلومات تشير إلى أن حميدتي أرسل من قبل في يوليو 2019 نحو أربعة آلاف جندي إلى ليبيا لحماية المنشآت النفطية في منطقة الهلال النفطي لمنح قوات حفتر الفرصة لتركيز كل قوتها على هجوم طرابلس.
لقد استطاعت قوات حميدتي تنويع مصادر دخلها عقب انخراطها في حرب اليمن وحصول أفرادها على الأموال بصورة مباشرة ونقدا دون المرور بوزارة الدفاع السودانية أو وزارة المالية، مما منح حالة من الاستقلالية لقوات الدعم السريع بعيداً عن مؤسسة وزارة الدفاع حسبما يقتضي الوضع الدستوري للبلاد.
وبالإضافة لطموح حميدتي المتمدد فإن قواته تحتاج لميزانيات سنوية ضخمة ومتزايدة تقدر ربما بمليارات الدولارات لتغطية تحركات تلك القوات وانتشارها في معظم مدن السودان وزيادة قدراتها التسليحية وتغطية مرتبات أكثر من 30 ألف جندي.
ولعل طموح حميدتي غير المحدود يجعله يحرص على أن يكون صاحب اليد العليا، ومثال لذلك منحه خزانة الدولة السودانية مبلغا يتجاوز مليار دولار، وتسديد رواتب الشرطة السودانية نقداً لمدة 3 أشهر. ولذا يمكن تفسير لجوء رئيس الوزراء عبدالله حمدوك إلى حميدتي ليجد له مخرجا من الأزمة الاقتصادية وتنازله له عن رئاسة اللجنة الاقتصادية العليا متقبلا كل شروطه. ولاحقا وفي مؤتمر صحفي نقله التلفزيون الرسمي أعلن حميدتي عن تأمين احتياجات المواطنين الأساسية ودفع مليار و27 مليون دولار للحكومة وهو مبلغ يمثل نحو ربع ميزانية السودان الرسمية للعام 2019 والبالغة 4.1 مليار دولار.
إذن رجل بهذه الاستقلالية والنفوذ قادر على اتخاذ قرار إرسال قواته بجانب حفتر حتى لو اضطر لفرض هذا القرار على النظام في السودان. وكلما كان هناك مقابل مالي مجز فإن الاستجابة واردة فليس للرجل أيديولوجية أو عقيدة سياسية يقاتل لأجلها، كما أن حفتر ومن خلفه حلفاؤه قادرون على توفير الأموال التي يطلبها حميدتي. ويستطيع حميدتي إقناع الآخرين بخدماته المدفوعة الأجر فقد سبق أن حصل على مقابل من الاتحاد الأوروبي قدر بنحو 200 مليون يورو في الفترة بين 2016 و2018 نظير حراسة الحدود ومنع الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.