
يتوجه حامد بصورة راتبة الى الميناء البري جنوب العاصمة الخرطوم،وبعد وصوله يجلس امام مكتب شركة البصات التي يمتلكها ويرسل بصره الى ماوراء سياج المبنى الانيق الذي كان حتى منتصف شهر مارس من هذا العام يضج بالحركة حيث يقصده يومياً اكثر من خمسمائة الف مسافر في حركتهم بين ولايات البلاد الثماني عشرة،ولكن سرعان مايرتد البصير حسيراً الى حامد ويتملكه الحزن جراء افتقاد الميناء البري لحركة المارة والمسافرين فقد تحول الى مدينة اشباح تشكو انعدام الحركة والسكان،وكل يوم يأمل في ان تعود الحياة الى طبيعتها بعد ان عطّلتها جائحة كورونا التي لايشتكي من اثارها الاقتصادية الكارثية حامد وغيره من التجار واصحاب المال بل حتى الحكومة السودانية جأرت بالشكوى من انخفاض مواردها بعد ان احكم الداء الخفي قبضته على الاقتصاد العالمي والمحلي.
واقع غريب
أكثر المتشائمين لم يكن يتوقع ان يأتي على البلاد يوم وتنخفض فيه الحركة الى ادنى المستويات غير ان جائحة كورونا فرضت سطوتها منذ ظهور اول حالة في السودان في شهر فبراير،ومن خلال جولات سجلتها صحيفة (الانتباهة) طوال الفترة الماضية الى عدد من المواقع وقفت على حجم تراجع الحركة،وفي المرافق الحكومية وخلال فترة الحظر التي تم فرضها طوال ثلاثة اشهر فقد خلت من موظفيها بل حتى المرافق التي كانت تقدم خدمات للمواطنين مثل السجل المدني وتوثيق الشهادات بوزارتي التربية والخارجية وغيرها غشيتها رياح التوقف الاضطراري ،يقول الموظف محمد انهم ورغم زيادة الاجور الا ان الجائحة اثرت على مداخيلهم كثيراً لجهة انهم كانوا يحصلون على حوافز جيدة نظير ادائهم بعض المهام ،والحسرة التي سيطرت على الموظف محمد وجدناها في شركات الطيران الوطنية الثلاث»سودانير،تاركو وبدر «التي واجهت شبح الهبوط الاضطراري ويقول احمد ان خسائر الشركات الثلاث خلال فترة اغلاق الاجواء السودانية بلغت في الثلاثة اشهر خمسين مليون دولار،وذات الاثار الكارثية على الاقتصاد كشفها تجار التقتهم «الانتباهة» باسواق مختلفة ومنهم الطيب عبد الباقي و بابكر صباحي و المحامي عماد حسين آدم الطاهر الذين اكدوا ان جائحة اكورونا اثرت كثيراً على القطاع الاقتصادي عامة والتجاري على وجه الخصوص ،واشاروا الى انها اسهمت في انخفاض القوة الشرائية التي تراجعت في العاصمة بسبب مغادرة اكثر من 30% من سكانها الى الولايات لقضاء فترة الحظر الطويلة بين اهلهم .
خسائر مليارية
ولم تقتصر الخسائر على المواطنين فقط بل وصل تأثيرها الى الحكومة التي كشفت عن ان ايراداتها من الجمارك والضرائب والرسوم شهدت انخفاضاً غير مسبوق ،واوضحت ان الخسارة الشهرية طوال فترة الحظر كانت تبلغ 200مليار جنيه ، واكد مدير دائرة التخطيط بهيئة الجمارك اللواء شرطة حسب الكريم آدم النور لـ»الانتباهة» التأثير البالغ لجائحة كورنا على اقتصاد العالم ، وقال ان الاغلاق اثر سلباً على المصانع العالمية وان هذا انعكس سلباً على صادارت معظم الدول ابرزها الصين ،لافتاً الى ان الطلب على الصادرات والتجارة الدولية تراجع خلال الفترة الماضية،ورادف:وهذا يعني أن الجمارك تتأثر إيراداتها الضريبية والتي تعتبر إحدى العناصر المكونة لموازنة الدولة.
تأثير واضح
ومضى مدير دائرة التخطيط في حديثه واضاف: جائحة كرونا بلا شك تواجه باحترازات صحية وهي بمثابة حرب مفتوحة تحتاج إلى إنفاق عام حتى فرض حظر التجوال تقوم الدولة بجبر الضرر للشركات وكذلك الذين يتأثر دخلهم اليومي وحياتهم المعيشية جراء هذا الحظر،عليه فان كل دول العالم بما فيها تلك الغنية لابد لها من إعادة النظر في الموازنة في ظل هذه الظروف العرضية التي تؤثر بلا شك على الاقتصاد والمجتمع الذي يحتاج أيضاً إلى احترازات خوفاً من الانفلات الأمني وهو إنفاق يزيد رهق الموازنة،وذكر أن القطاعات الأكثر تضرراً هي (النقل،والتصنيع،الخدمات، وقطاع تجارة السلع). أما بالنسبة للصادرات ذكر أنها تتأثر بقفل الحدود للدول، كما يتأثر توقف المصانع التي تحتاج إلى المواد الخام ناهيك عن تأثير قطاع النقل لا سيما النقل الجوي والذي يعتبر الأكثر تضرراً.
الكساد الثاني
ويتمحور السؤال حول تأثير جائحة كورونا من خلال منظار عدد من خبراء الاقتصاد ووضع رؤية اقتصادية للخروج منها ،ويقول الأكاديمي والباحث الاقتصادي محمد إبراهيم مصطفى لـ»الانتباهة» إن الاقتصاد العالمي يواجه أسوأ موجة ركود منذ الكساد الكبير في العام 1929م،ويلفت الى ان الاقتصاد السوداني يعد الأكثر تضرراً في أفريقيا،واضاف: أثرت كورونا سلبياً على حشد الدعم المالي لمؤتمر أصدقاء السودان الذي انعقد في بداية هذا الشهر، فالدول الأوروبية التي يعول عليها السودان تأثر اقتصادها بتلك الجائحة، بالإضافة الى الارتفاع الحاد في اسعار السلع والذي تضاعف بعد الحظر فقد بلغت معدلات التضخم عن شهر مايو99% مع تواصل انخفاض سعر العملة، إضافة إلى تراجع المعروض من العملة خاصة من المغتربين نسبة للقيود المفروضة على حركة الناس بسبب كورونا، بالإضافة الى الاثار السالبة التي خلفتها على جميع قطاعات الإنتاج وقطاع سلسلة التوريد والقطاع الزراعي وقطاع السياحة الذي يعد أكثر تضرراً إذ أغلقت مكاتب السفر والسياحة أبوابها بسبب حظر السفر المفروض بسبب هذا الوباء حيث يفوق عددها 500 مما يعني أن 26 ألف عامل بالمتوسط تأثروا بالإغلاق وفق وكالة الصحافة الفرنسية.
تأثير متعدد الأوجه
ويواصل الخبير الاقتصادي محمد ابراهيم :حديثه قائلاً ان اغلاق المطارات والمعابر البحرية والبرية ادى إلى زيادة أسعار السلع الاستهلاكية الى أكثر من 300% كما زاد في العجز التجاري في البلاد، وتقدر تقارير عدد العاملين في مهن هامشية في الخرطوم بنحو240ألف شخص بينهم 36ألف بائعة شاي في الخرطوم وحدها انقطع دخلهن بفرض حالة الطوارئ الصحية وفرض الحظر الشامل، وكذلك تأثر القطاع الخدمي، لذلك يجب على الحكومة أن تعمل جاهدة للإصلاح الهيكلي للاقتصاد ومعالجة ترشيد قضايا الدعم لمواجهة الظروف الملحة التي خلفها الفيروس.
تراجع النمو
من ناحيتها فان الباحثة مها عباس تنوه في حديث لـ(الانتباهة) الى ان فيروس كورونا اسهم سلباً في توقف النمو الاقتصادي الذي تراجع بشكل كبير خلال الاشهر الماضية ، واضافت ان اغلاق المطارات كان له تأثيرات سلبية على عملية الاستيراد والتصدير وحركة التبادل التجاري بين الدول،وطالبت الحكومة بتفعيل الجانب الرقابي في ظل الارتفاع الجنوني للسلع.
أزمة حقيقية
على ذات الصعيد فان الخبير الاقتصادي بوزارة الاقتصاد والتخطيط بالمملكة العربية السعودية الدكتور أبوبكر التجاني الحاج يؤكد بأن جائحة كورونا لها تأثير سلبي على اقتصاديات دول العالم دون استثناء من حيث إنتاج السلع والخدمات وتبادلها، عطفاً على أداء الأعمال الخاصة والعامة،وقال ان أصحاب الأعمال اليومية في جميع دول العالم يعتبرون الشريحة الأكثر تضرراً بسبب الحظر، إضافة لفقدان العديد من العاملين لوظائفهم على اثر توقف الإنتاج ،واردف قائلاً:كما ان مكافحة الجائحة استنزفت الكثير من ميزانيات الدول في الصرف على تأمين مستلزمات معالجة أعراضها المرضية وحماية الكوادر الطبية ،علاوة على تعويض الشرائح المجتمعية التي تأثر دخلها بالاغلاق ،مع الأخذ في الاعتبار أن كل ما ذُكر أعلاه ينطبق على السودان.
مشاكل إضافية
أما الخبير الاقتصادي الدكتور ابوبكر يعلق في تشخيص الواقع الذي افرزته جائحة كورونا ويقول ان الاقتصاد السوداني يواجه حالياً مشكلة اخرى تتمثل في عدم فعالية المرونة السعرية لكل من العرض والطلب ( وتقيس هذه المرونة مدى استجابة كل من الكمية المعروضة والكمية المطلوبة للتغير في سعر السلعة في الحالتين ) ،أي أن الكمية المعروضة من السلعة لا تزيد مع زيادة سعر السلعة ( والعلاقة موجبة بين عرض السلعة وسعرها ) أي أنه إذا ارتفع سعر السلعة زاد العرض منها أو انها تزيد بزيادة طفيفة لا تتناسب مع نسبة الزيادة في السعر ،وفي المقابل نجد أن مرونة الطلب أيضاً لا تعمل بفاعلية (العلاقة عكسية بين سعر السلعة والطلب عليها … إذا زاد السعر قل الطلب) لان الناس الآن في حالة خوف وهلع من زيادة السعر لمستويات أعلى من الحالية او انهم يعتقدون انهم لن يجدوها في المرة القادمة.
حلول ومخارج
ويرى أبوبكر أن معالجة الاقتصاد وآثار هذه الجائحة يكمن في تحريك عجلة الاقتصاد بالتركيز على إرجاع المرونة السعرية للطلب على السلع والخدمات لوضعها الطبيعي من خلال توفير السلع والخدمات بكمياتها السابقة لإزالة حالة الهلع لدى المواطنين، وذلك من خلال دعم عملية توفيرها من مصادرها سواء أكانت زراعية أو صناعية من خلال توفير مدخلات الإنتاج من مواد بترولية، قطع غيارومواد خام مع تسهيل إجراءات الاستيراد وإعطاء الأولوية في التخليص الجمركي للسلع الأساسية التي يحتاجها المواطن بشكل مباشر بالإضافة لمدخلات الإنتاج.
ضرورات ومحفزات
وأكد ابوبكر في نهاية حديثه على أهمية اجتهاد الحكومة في توفير المواد البترولية والكهرباء لتحريك العمل والإنتاج في القطاعين الصناعي والزراعي لأن ذلك يمثل العامل الأساسي في تحريك عجلة الاقتصاد على جانبي العرض والطلب ومزاولة المواطنين لأعمالهم السابقة وإيجاد فرص عمل جديدة في الاقتصاد، مع تسهيل حركة الصادر لتوفير العملات الأجنبية بما يسهم في رفع وتثبيت قيمة العملة الوطنية وتسهيل حركة الوارد بما يمكّن من توفير السلع الأساسية ( القمح، الدقيق، الأدوية، السكر، الزيوت،ومدخلات الإنتاج من قطع غيار وأسمدة وغيرها ) وحل المشاكل الإدارية والتمويلية التي تعيق رفع الطاقة الإنتاجية للعديد من المصانع المحلية.
الانتباهة