موجة البرد التي ضربت البلاد في الايام الفائتة اثرت بصورة واضحة علي المشهد في الشارع السوداني، قلت نسبة الحركة بصورة كبيرة وساعد علي ذلك عطلة المدارس، الصباح الباكر تكاد الشوارع تخلو من المارة، المحطات المركزية للمواصلات التي اعتادت علي الحركة العالية المليئة بالحياة تكاد تكون قفرا من كل شيء حتي موعد ارتفاع الشمس ، ازداد الاقبال علي المشروبات الساخنة خصوصا “الشاي باللبن” مع الزلابية القادمة للتو من “صاجها”. حتي في ذلك الوقت المتاخر قلما تري وجه مكشوف، الكل متدثر خلف ثقيل الثياب وأغطية الرأس . اما اولئك اللذين تعودوا التوجه من المسجد الي “الفرن” بعد أداء صلاة الصبح للحصول علي الخبز باكرا فقد ازدادت معاناتهم، اذ ان معظم نقاط البيع في المخابز مكشوفة علي العراء مما يجعل البرد مضاعفا ، الا ان للأمر فوائده، فمن يستطيع مجابهة البرد يستطيع الحصول علي الخبز بسهولة لقصر الصفوف في ذلك الوقت، اذن الامر متروك لتقديراتهم “اما الدفء او الخبز.” تغيرت أيضا ملامح السلع المعروضة في المحلات و لدي الباعة المتجولون، فمثلا علي طول شارع الحرية ، حيث السوق الأكبر للأدوات الكهربائية ، انتشرت سخانات المياه علي كل الواجهات وانتقلت مكيفات الهواء لتحتل الرطن الأخير من المحلات في عنوان بارز للرائج من الادوات الكهربائية. اما علي مستوي الباعة المتجولون فلا يكاد يوجد مكان يخلو من اغطية الرأس القطنية والصوفية من كافة الاشكال والألوان ، الجوارب الثقيلة، الشالات ، وبذلات البرد المتنوعة . ايضا حاز الفازليم والجليسرين موقعه المتقدم من السلع الرائجة لشيوع ” الغبشة” التي حولت الجميع الي لون “الفول المدمس” مما يجعل خدمات جميع ادوات “المسوح” مطلوبة بشدة. ايضا من المظاهر التي فرضها البرد، الاقبال المبكر علي المطاعم عموما والشعبية منها، ازداد الاقبال علي “العصيدة” بكافة اشكال “اللايوق” من تقلية ونعيمية و لوبا وغيره، كما ان القراريص الشهية مانحة الدفء أصبحت سيدة المائدة في العديد من المناطق التي كانت تجافيها اوان الصيف، زاد الاقبال علي دقيق الدخن “عادي، ودامرقة” والفسيخ والاسماك”لمن استطاع اليها سبيلا.” لا ننسي بالطبع زيادة معاناة اولئك الذين يفترشون الأرض وبلتحفون السماء، المشردون الذين قذفت بهم عنجهية المدينة وقسوتها الي الأرصفة و الطرقات ، حيث البرد رسول الموت المتربص بهم، لا يملكون وجبة تقيم أودهم، أو غطاء يمنحهم حرارة الحياة، ينتظرون ان يصحو ضمير الانسانية فينا فيمنحهم بعض الدفء، وأولئك النتشرون عبر معسكرات النزوح المكتوين بنار مزايدات الساسة علي قضاياهم للصعود الي كرسي السلطة البراق، المحاصرون بالموت من كل ناحية، في الغرب الادني والأقصي، وفي الشرق واطراف المدن ، حيث شربة ماء نظيفة هي أقصي الرفاهة فما بالك بحلم سقف دافي؟؟ من يخبر ساستنا ان من يتفاوضون بأسمهم في فاخر الفنادق و تحت القصور المشيدة يموتون بالبرد؟ من يخبرهم ان يتقاتلون حتي يحكمونهم يموتون جراء لسعة صقيع؟ متي يدركون ثمن الرصاصة يمكن ان يعيد الحياة لطفل لم يجد لقمة تقيه زمهرير البرد؟