(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ)
صدق الله العظيم
د. عمر القراي
إن الوضع الذي تمر به البلاد اليوم، وضع محزن ومؤسف. فهناك حكومة مدنية حققت نجاحات في الملفات الخارجية، ووضعت السودان على أعتاب مكانه الطبيعي والطليعي، في المجتمع الدولي. ولكنها تعثرت في الملفات الداخلية. وكان من أسباب تعثرها بالإضافة إلى أطماع قادة الأحزاب وانقسامات قوى الحرية والتغيير ومحاصصاتهم لنيل المناصب لاتباعهم ولو دون كفاءة المكون العسكري الشريك في السلطة بموجب الوثيقة الدستورية. فهذا المكون العسكري، ليس مجرد قيادات عسكرية، وإنما أفراد كانوا في لجنة أمن النظام البائد لسنوات عديدة، وحققوا منها مكاسب شخصية، وحصانة من المساءلة عن الجرائم، وكل هذه امتيازات لا يمكن ان تستمر في نظام ديمقراطي. ولهذا فهم اليوم يعرقلون تقدم الحكومة المدنية، بكل ما لديهم من وسائل، ولأطول وقت ممكن، حتى يباعدوا بينهم وبين ما يخشون من مساءلة على ما صنعوا أثناء حكم الإنقاذ أو بعد الثورة. ولو أنهم استطاعوا بكل حيلة، وكل مكيدة، وكل فتنة أن يقنعوا هذا الشعب الواعي بعودة نظام المؤتمر الوطني، ما ترددوا لحظة في القيام بها. ولقد غضوا الطرف عن الفلول، واعطوهم الفرص لخلق الأزمات في الخبز، وفي البنزين، وفي الكهرباء، وفي الدواء، أكثر من مرة، حتى بلغ بهم الصلف أن يلقوا الدقيق في النيل، فيجوع الأطفال، ثم لا يساءل منهم أحداً!!
واليوم تقوم مجموعة صغيرة، لا تمثل قبائل البجا، ولا تمثل نظارات الشرق، على رأسها ترك وهو مرشح المؤتمر الوطني ونظامه المباد، بقفل الميناء، وقطع الطريق، ومنع الدقيق والبنزين والدواء!! والمكون العسكري بكل فصائله، وسلاحه، يعجز عن فرض الأمن، وفتح الطريق، وتجنيب العباد والبلاد الأزمات المنتظرة، من جراء جريمة ترك. أو أنه لا يعجز، ولكن يشجع ترك، ويفاوضه، ويشيد به، كما فعل ممثله الفريق كباشي، ليستمر في إكمال مسرحيته، التي تضاف كجريمة حديثة، إلى جرائم المؤتمر الوطني ضد الشعب السوداني.
ثم نسمع بجماعة ارهابية هنا، وأخرى هناك، تقوم القوات النظامية مشتركة بمواجهتها، والقضاء عليها. ونتساءل لماذا ظلت هذه الجماعات الارهابية دون حراك، طوال الوقت الماضي، ولم تتحرك إلا بعد أن ظهر الخلاف بين المكون العسكري والمكون المدني؟! ولماذا تلت انقلاب الثلاثاء الفاشل، وما صلتها به؟
وما علاقة الجماعات الإرهابية، بالتهديد بالقتل الذي حدث لياسر عرمان؟ وهل هي تصعيد للانفلات الأمني، وبداية للاغتيالات السياسية، لتصفية العناصر الوطنية، التي تعبر عن روح الثورة؟ حتى إذا سادت الفوضى والاغتيالات، وجد المكون العسكري ذريعة يعلن بها حالة الطوارئ، ويحقق الانقلاب الحقيقي، بعد فشل “بروفة” الانقلاب، وفشل انقلاب أصحاب السبت المدني في قاعة الصداقة؟
إن د. عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء، رجل لا تنقصه الروح الوطنية، ولا تنقصه المعلومات عما يحدث، أو معرفة أبعاده الحقيقية. وهو أيضاً يملك تصوراً لحلول مشاكل البلد، عبر عنه في مبادرته الرائدة. ولكنه لم يتحرك حتى الآن، لأن السلطات التنفيذية المؤثرة، في يد الفريق البرهان. وهو يشعر أنه لو أمر الشرطة بمواجهة التفلتات الأمنية، لما استجابت له إلا بالرجوع إلى البرهان. فالوثيقة الدستورية لم تكتب بصورة محكمة لصالح الحكومة المدنية. ولم تحتاط بتحديد ماذا يتم إذا خان أحد اطرافها التزامه بها. وقوى الحرية والتغيير التي تعتبر الحاضة الرسمية للحكومة، والتي يريد حمدوك أن يتقوى بها مقسومة على نفسها، وعجزت أن تتفاوض مع أفراد ومجموعات، كانوا معها، ولهم تاريخ في معارضة النظام المباد. فلما لم يتسع صدرها لهم، وابعدتهم بسبب المحاصصات، والمصالح الضيقة اضطرتهم، وهم أيضاً يبحثون عن مواقع لهم في المحاصصة، إلى معارضتها حتى وقعوا فريسة سهلة في فم الفلول. وفوجئ بعضهم بذلك، بعد أن وصل إلى قاعة الصداقة فما كان منهم إلا أن انسحبوا. والسيد رئيس الوزراء لا يغيب عليه أنه يمكن أن يلجأ لشعبه، ويصارحه بوضوح بتآمر المكون العسكري. وهو يعلم أن المدنية هي خيار الشعب، وأن تأييد المكون المدني أكبر بما لا يقاس من تأييد المكون العسكري، الذي لا يؤيده إلا الفلول. ولكن حمدوك يتردد في ذلك، لأن الشعب ليس لديه جسم أو كيان يمثله، ويمكن أن يقوده في خطوات محددة، لمواجهة المكون العسكري وهزيمته.
إن الوضع المتأزم الحالي، لا يترك لرئيس الوزراء غير ثلاثة خيارات:
1-أن يحاول إبقاء الوضع على ما هو عليه. فلا يهاجم المكون العسكري، ولا يستفزه، ويحاول التذكير بالالتزام بالوثيقة الدستورية، وبالشراكة بين المكون المدني والعسكري وفقها. كما يحاول الوساطة التي تسعى إلى اقناع المكون العسكري، بتوجيه حليفه ترك، بفتح الميناء والشارع، حتى لا يخنق الشعب بالأزمات. وقد يستعين بوساطة إقليمية أو دولية، تكون مقدرة أكثر من الجانب العسكري. وهو في كل ذلك يرجو ألا تتفاقم الأمور، حتى تنتهي الفترة الانتقالية، ويسلم الأمر لرئيس الوزراء المنتخب. ولكن الإشكالية التي تواجه هذا الخيار، هي أن المكون العسكري لن يقبل من تلقاء نفسه، حل أزمات قام هو بخلقها، لغرض معين، هو اسقاط حكومة الفترة الانتقالية. وهو لن يقول أنه لا يقبل الوساطة، وإنما سيسوف فيها، كسباً للزمن، واحكاماً للازمات. وقد يشترط لقبولها شروطاً تعجيزية، مثل المطالبة بإلغاء لجنة التفكيك، أو ابعاد شخصيات في قوى الحرية والتغيير، عصيّة على قبول فلول النظام السابق. أو إحكام قبضته على الحكومة وفرض وصايته التي تحدث عنها.
2-القبول بشروط المكون العسكري، ومقايضة استتباب الأمن، وعدم حدوث الأزمات، بتغيير الحكومة بدعوى توسيع قاعدتها، ومشاركة كافة الكيانات، وافساح المجال للفلول الذين اجتمعوا في قاعة الصداقة، في المحاصصة، واعطاءهم مواقع قيادية في الحكومة واطلاق يدهم لإعادة كل أعضاء المؤتمر الوطني في مختلف الوزارات. وقبول رأي المكون العسكري بإبعاد العناصر التي واجهته في الحكومة مثل محمد الفكي ووجدي صالح وصديق تاور وخالد سلك وياسر عرمان وغيرهم. وموافقة لجنة المحكمة العليا بإلغاء كافة قرارات لجنة تفكيك التمكين، وإعادة الأموال المصادرة للفلول. ثم وضع قوانين ومراقبة للانتخابات تمكن من تزويرها لصالح الحركة الإسلامية، والاسم الجديد الذي ستظهر به. الإشكالية التي تواجه هذا الخيار هي أنه عمل لإعادة النظام البائد وهو عمل ضد رغبة ومصلحة الشعب كما أنه ضد المجتمع الدولي. وهو خيار سيحرق حمدوك سياسياً وأخلاقياً ودولياً. فلا يصفه الشعب بعد ذلك بالضعف والعجز، وإنما يصفونه بخيانة دماء الشهداء، والتآمر ضد الثورة مع أعدائها. ثم أن المجتمع الدولي سوف يكتشف الوضع الجديد، ويعرف أنه إعادة لنظام البشير، فيوقع عليه العقوبات التي تدخل الشعب في نفس حالة الضيق والعوز.
3-أن يخرج السيد رئيس الوزراء للشعب من كل وسائل الإعلام، فيطرح المشكلة على حقيقتها. وهي أن المكون العسكري يرفض التعاون مع المكون المدني، في القرارات الأساسية، التي من شأنها تحقيق مبادئ الثورة، وتحسين حياة الشعب. بل هو ويتآمر مع فلول النظام البائد، لتعويق الحكومة، ومنعها من آداء واجباتها، ثم يهاجمها على التقصير، الذي هو السبب الرئيسي فيه. ثم يطرح رئيس الوزراء كل الملفات المعلقة بواسطتهم، ويتخذ فيها القرارات التي ينتظرها الشعب منفرداً، لأن المكون العسكري يرفض التجاوب معه فيها، مثل:
أ-تسليم البشير ومن معه للمحكمة الجنائية الدولية.
ب-توجيه وزير الدفاع ومدير عام الشرطة، بفتح الميناء والطريق، وحسم المتفلتين والارهابيين بقوة القانون، واعتقال ترك ومن معه.
ج- ارجاع كافة الشركات الاقتصادية، التابعة للقوات النظامية لوزارة المالية.
د-إتمام هياكل السلطة، وملأ الوزارات الشاغرة، وقبول ترشيحات كل الكيانات للشخصيات الوطنية، التي لم تعمل مع النظام المباد، ليختار منها أعضاء المجلس التشريعي في أقرب وقت ممكن.
ثم يطلب من الشعب أن يدعم هذه القرارات، ويسعى لفرضها. ويجب ألا يتخوف حمدوك من أن الشعب ليس له جسم يوجهه، لأن هذا الشعب شعب معلم، واذا تحرك لهدف معين، فإنه يخلق قيادته اثناء مسيرته. فالشعب قد تحرك في الثورة، ثم برز تجمع المهنيين ووجه ونظم المظاهرات. والآن يمكن ان يتحرك الشعب لدعم رئيس الوزراء، اذا اختار الانحياز التام له، ثم يبتدع الشعب قيادة جديدة، من تجمع القانونيين، أو تجمع المهنيين، أو تجمع تحالف المجتمع المدني، أو تجمع الحركات النسوية السودانية، يكون هدفه الاجتماعات بالثوار في كل لحظة، والتخطيط لتنفيذ الاضطرابات، والاعتصامات، والمتاريس، حتى تتحقق أهداف الحراك الوطني، الذي لن يتغيب عنه مواطن شريف.
كما أن السيد رئيس الوزراء يجب أن يخاطب القوات النظامية، بأنها قوات الشعب المسلحة، وليست قوات البرهان أو حميدتي. وأن عليها واجب تجاه الشعب، أن تحمي تحركه. وأن المكون العسكري الحاضر، لا يحسن تمثيل القوات المسلحة، وعليهم استبداله بممثلين من الذين انحازوا للثورة، أو الذين قاوموا نظام البشير ففصلهم. فإعادة هؤلاء أولى من استمرار العسكريين، الذين كانوا في اللجنة الأمنية لنظام البشير حتى سقوطه. كما أن على رئيس الوزراء مخاطبة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والمجتمع الدولي، بتفعيل الفصل السابع، وإدخال القوات الدولية لحماية الشعب من التفلت الأمني، الذي رفض المكون العسكري أن يحسمه. وحماية الحكومة الانتقالية، من المجموعات المنسوبة للفلول، والتي تقطع الطرق وتروع المواطنين. الإشكالية التي تواجه هذا الخيار، هو أنه قد يقود الى صدام وضحايا، وإعادة للثورة من جديد، ولكن كل ذلك يهون من أجل الوطن.
إن الشعب السوداني شعب كريم، وهو عند الله محفوظ ومنصور، وكل من يكيد له لا يحصد غير الخذلان والندامة. ولن ينال هذا الشعب إلا الخير، ولن ينزل إلا منازل الشرف والكرامة. فليتخذ السيد رئيس الوزراء قراره، وليحدد خياره، فإنه به يرفع نفسه أو يضعها.