(إتكاءة على حجر* بين الوطن والرُوح)*
“عند الفراغ من كلِّ شيءٍ..
يَصعدُ الحبُّ يُؤذِّنُ في العاشقين، في ثُلُث القلب الأخير –
قلبي، لكنَّه لا يَتعرَّفُ عليَّ، أنا مَن رسمْتُ على خدِّكَ القيامة.في اللَّيل، يذهبُ الحذاءُ لينامَ، تَغمزُ النَّجمةُ لنجمةٍ أخرى لم تُفلحْ في صُعُود النَّافذة.تغمز، ثم يَنفرِطُ الحديثُ بينهما.تقول النَّجمةُ التي فلحتْ بالنافذة: رأيتُ بحراً يَعزِفُ نايَاّ غَجَريَّاً. رأيتُ امْرأةً سوداءَ تُمشِّطُ اللَّيلَ،
رأيتُ حذاءً، ولم أرَ رجُلاً فارغَ القلبِ يُغنِّي لكنْ، وفي آخِر كأسٍ، سبَّحَ العاشقُ باسْمِ النِّساءِ العامِراتِ ونامَ بحذائِه”.
(رَمّـــــــاحْ)
أعرفهُ رجلاً ينثر حيرته، يغني فوق طاقة الليل بأسئلته الوجودية مراراً، جَسورٌ يرتقي فوق المحبة بثوب صوف، واعٍ يقفز فوق ملامة النص وحواشيه، شجاعٌ صرف لايمل من تغريد ينافح قشعريرة، حثيث في تبويب الازمنة بازماتها، تضطرد داخل عينيه كوة ضياء يجهد في إيصال بريقها بصحو يمت للحياة بإتصال إحقاقها لنتاج مُمحص بلا رفض عاجل، لايخاتل وقتهُ، يحمل مفرزة ضخمة آتية من وريد يتمدد فيه الواقع بلا ترميز أو استدارة، يتحدث فتأتي اللغة من مناطق تعبير كثيرة في الجسد، يرتكب بعنفوان خياله المجترح مسارب آمنة للضوء، للمطر، للسماء قوادم في نجمها الذي يقاتل لبسط شعاعه، يغريك بطلاوة أن تكون بسيطا بما يكفي حتي في نفثِ فاهٍ رديء، يماطلك فترمي بحصافتك دون أن تكمل النص بفكرته الحالمة، وقبل أن تنتفض يشيع في جوانحك السرى الليلي ودُغش العصافير، تتامل جواذب فكرته دون أن تنتابك صدمة توقع كأنك تقرأ وتتلمظ، يغشاك الكون في كل حاسة الا مخالطة السمع، كأنك تحاور الشيء في معية حدوثه وتخليقه، بذرة معناه على أرض الروح، تتورط لتهبط وأنت تمسك بجذر معارفك حتي ينبت فرع اخضر لامفر من أن تتفيأه راضياً..
مابين (سوار ورماح)، ثملٌ عميق في بساطته مع المفردة، قريب كأمس مضى في تعاطيه مع الوطن بروحانية لم تتزلف أو تتوسل المسالك، (سوار) كان مخفياً بإرادته ومعلوما في سماوات القريض، جعل (ابوسوار) القضايا تمشي سرباً مع غزله وطرفته وهيامه القديم، (ابوباسل) صنع هامشا في مخيلته وقيّده كبيت له يغلقه عليه وحدهُ، فاصبح يناجز امام بابه ليبقيه مفتوحاً، لم يواربه من الشعراء المطاليق أو المغاليق على بسطة لم تبلغ ميس النثر، لم يقع في مكيدة الشعر فيذرف لديها نمط يلدغ ذيل ماقبله، بداهة (ابوسوار) جعلت الشجرة ظِلاً يرمي للغد والتفاؤل جذر وتدي يقوم مقام عمادة البيت، كان بطلاً خفياً يقودك بمناداته للوقيعة، يجعلها ترف على مصراعيها وتجتر مراقد رمسها، لدى (رماح) كان لوح الخيال هو الذي يصنع أسواراً ويفكها ليرى الناس الوطن، لذا ظل القلب هاجِساً مضطرداً غجرياً في براريه، ناسكا في خلوة تخبز قشابة الروح فتتمظهر آيائلها وتركض وحدها، كأنه يبتسم ويرصد لها المغاني ويخفي المفازات، ذلك هو ديدن (سوار) ايضا، يصنع لغباره ظلاً، تخشع الابدان لليل أما هو فيخشع لمرابيعه ولا يتئد له لسان، يحلق في جذل شجبه الضحوك، ينقذه جناحه ليهبط به، يخلعه ويمضي لصباحه وصبابته بالتراب كأنه يصفيِّه قبل أن تغمره الظنون
“والناس بقت سر جنَّنا
مالو الزمان ماهو الزمان
ومالو القلب بِقى ما بدق
وإن دق بيدق من عنا
ومالن بنات هذا الزمن
ما بطلعن من زول غنا”! (أبوسوار)
فراشات يناديها لسُمّار روحه قبل أن يحترق بالمغاني، يستهجن، ويستعير من مداده دمٌ يفرقه بين قبائل الكلمات، بالجوي، الحنين، حداء النوق والطنابرة، والمقل الرائقة بِشب النعاس، كطائر يندب إلفة الورق، ويغدو لشواقير الوديان والرمال فيسكن غماماتها، مسدار يفتح آهة تساؤله، ماله وماباله، وهو يعلف جواد الشعر الأخرق ليقطع غيهب الأسئلة الشعورية وينادم ضفافها..يحك جلده بالغيم ليتمدد ويجعل الليل الضرير يُبصِر ويضحك من الهذيان، فتأتي الاوزار على شكل قصيدة تناغم الحرية.
“راجنها
من بين بيوتات السحاب
المنها
يتمد خيت من السما
و لكنها
المارقة من آخر التخا
فى الليل بتعصر دنّها
عاشقنها
و شادين سبيل الليل وتر
كان يبقا نغمه ترنّها
زولتى المتل ضُل الندى
و زِيفة الخريف زى منها
آه منها و آه منها
البدرى عارف انها
قمرية فى قيف الجنان
بتقوقى يطلع فنها
فوسيبة دابه مفرهدة
طرف الجروف شاتلنّها
بتغنى لى النيل الفجر
تسقى الغمامات حنها”…(ابوسوار)
(رماح) كان مثقلاً بهموم كثيرة، يقتات من ذروتها إندفاعاته الكثيرة ليكتب النص، يكسر جوز الفكرة ولايحملها وحدها، يغزل من ارق ليله طعوم أخرى للوجع، للوطن حين يحمل صخرته وحده، ينقع قلبه ليتمدد بها، يرقد ويصنع لها زينته اللغوية، كأن يصنع للشارع صوتاً حراً مُشتهى لم يتبلل ريشه، يقف امام عش دبابيره ويشعل دخاناً لايستعصم أن يمر عبرة رئة القصيد، يود ان يتجسد له الآخر ليُريهِ كيف يحيِّ وردة ذابلة حين يتكفل بها وريده، يخلق العصافير قبل ابر القمح، الأبد لآلهة فزاعته حتي لايغويها بنعاس العصافير ولاخشخشة المناجل فتؤمي له بدهشتها وتفغر بحمل كاذب، كانه يصعد فوق النهار ليبقى ويُمعن في حمل رسائل الشموس على حراب كثيفة..
“ضحكوا في وجهي
فهم وأنا، وهو أيضا،
نعلم جيِّدا أنه المدخل
البوابة فقط هي التي لا تعلمُ ذلك
وما إصرارها على استقبالنا ومغازلة الفتيات القصيرات والحليقات
واحتضان الشُّعراء الصعاليك إلا لمعرفة من تكون!
وأنا كالعجوز الشجرة، خلفه
– يطير من قلبي عصفور رمادي،
خرج للتو من شقاوة طفل
مدَّ يده نحو البوابة
فصافحته بيدها الجيتار،
البنتُ التي صمَّمت وجه البوابة
كانت تعلم أن له عشقاً غجريّاً مع هذه الآلة
الجيتار، امرأة تسكن الأرواح الطيبة
وتحوم في تخومها بقميص مقدود” ..(ابوباسل)
………الشعر لن يدخل بباب النسيان، ولايعبره الاجل ليقتات رياحينه، ثمة بغتة مضيئة تغشي الشاعر فتتسربل روحه وتعَلق كعطر على عروة اخيلته، ولكي تقيم معه يكتب لها قصيدة، الغوايات حجر يتفجر منه الشعر، شجر يسير ببارقة القافية، إنتياباتها، قرنفلات ليلها اللآمعة، وجعها الطازج، نوافذها المُشرعة على إرتعاش صبحهِا، إكتناه معانيها في ذرة غبارها العالق، مواقيتها التي يغدقها سعيها، خرافتها،غموضها، صمتها وأنبجاس عمقها المُرهق..
بإمكان الكلمات ان ترمم أمكنة عظيمة في الروح، ثمة قوارير تتعبأ من غزلها، تتسع ازقة لتمنح الصدى زفير الريح، تمضي فيها بوجه طلق من الحكايا، من دخان المرافيء، والمراثي، هروب لايقتاد احد، غابات لاتنزف إستواءها، وترتفع اغصانها على هيئة أعلام..
البداوة، ذات البداهة التي جعلت (سوار ورماح)، ظاعنين في جفير المغاني، شاعريتها البسيطة طفحت بشجو امكنة عميقة في الروح، فلم يخطط مزاجهما مايقال، لأن البداوة ضد الهشاشة التي تعيق لسان اللحظة وشاعريتها، الرمل والسواقي، الشاطيء الذي يندب غياب العذارى، غنيمة المعصية في صفاء الرحيق، حلبة الرقص بزنود طنابيرها، نعاس الصباح وصديح المآذن، ترجمة العشاق في حلقة الذكر، العصاري، الصفصاف وضفته، اصائل إنسه وعرائسه،كل ذلك يقشر الذاكرة، ويمنحها اريج المانجو والبرتقال، سخونة الارض، صوت النحاس والبُطان، المِكنيٌة وفرقانها، الأبيض، امدرمان بذوات ذواكرها المتعددة بجذر القشابة..
وكما نرتعب من أن تقتلنا الحياة، نختلق مواقيت جديدة لنبتعد عن البكاء، نغني حين تضيء أسمال الليل نجمة، كلما امطرت الحجب الكثيفة خلف زمام الروح فاض وابل الخاطر بوسنه، كلما استدعى الوطن نواميس الكلام نخلع جلباب الراحة ونتحزّم قبل العِري، كلما ضل الطريق ففارق القرى والبلدات (دنقدنا) له البذور فسارت القماري بين الأراك والسمر، اشرعنا الخفقة لمواسم خططتها البشارات والهتافات والأناشيد، كلما خنقنا العرق والادعياء اشرقت الجباه وولجت الريح الانفاس الحارة، فأصبحنا نرتدي قفاز السلام ونصافح الطرق مراراً..
(سوار) كان يحمل في ظنه الحلم وهناً، إمتلا به حتى نخاع العظم، ماج به في كل احواله الساخرة، كان يُسفر وجه شعره المشرق بالحياة عتياً صلباً، بشطره الحرية، وشطره الآخر اليقين، بمحدثاتها وبدعها التي انتجها هؤلاء باحلاسها وأقتابها وكينونتها المرفقة لكل مُنتجٍ حي ينتهي بالزوال او القطع، حتى أنه ينشد للشجر، (رماح) عاصر الحلم رغم مماراة الغبن وتكالبه، لكنه لم يخفف قبضة قلقه، إنبلج ولم يجفف إهراق ثوريته بأن يعتدل الشجر ويصفو الجو للمطر فقط، لم يلق ظله للحراز وينتظر أن تطقطق أضلاعه الجمر، لم يتسكع بين الغرباء جزافاً بل جعل القلب مساكن بروادها، في كل إحواله كان يصمم خريطة وطن بمقياس رسم مكلل بالعراقة والاصالة، يشيد مسلة ليهتدي بها الناس، يبعث في اروقة الضوء سنام مجايلاته وظنونه، يسعي حثيثا لتعُم المسرة بأناسها، يترك اثره ليغني حبوراً، وهو يهش الذباب من حول فكرته، يفردن ويجمع، يحاول عبور شرايين الوطن الضيقة حينما إتسع بمعتركاته، من حوله تزهر الندبات وتنسحق كريات الدم هنا وهناك، تضع الافاعي بيضها وتختفي، لم يتراجع او ينهزم بحلبة رقصه، لكنه في النهاية إكتفي بوضع جسده كنص كامل جعل إعداده يرتقي ويتدفق ولم يختبيء منه، كما مضي (سوار) في هدوء حلمه الواثق بتحقيقه، بنبش الرفات وتدويرها لتذكير الناس دون معرفة سابقة بهم، لم يجمّل شمل (القعدة) بشمعدان او بخور مجاملة، عبقرية المكان جعلتهما متشابهين كما عبقرية الرحيل المباغت، في فراق لايُحتمل ثقله بالروح، لكائن متشابه لم نلاحظ خفته حتى تسامي لسحابة، الشاعر المتدفيء بجمر قضاياه وجامع الخلق حول نارها، الهام بقراءة الارض وساكني فؤادها وهي تمضي في مفترق الخريف.. مضت ولم تكن كفها ممتلئة بالوعود بل كانت تهمي بالدمع، بالرفاق السالكين فجاجها، باليم المتقاطر، بالندى المثقل على خد الوردة، بالدموع، والزجاج، بالحجارة واليقين، وزفرة الرحيل الغامقة بالاماني وسطوة العمر المنهزم في ساحة القدر بين الاقواس.
“لو أن ضوء هذا المصباح حقيقي
أو اليد التي تكتب.
والعيون المحدقة فيما أكتب
أموجودة حقًا؟
تختفي كلماتي كلمة إثر أخرى،
ولا أعرف سوى
أني هنا أحيا بين قوسين”!
(أوكتافيو باث )
حاشية
*إتكاءة على حجر: عنوان لديوان الشاعر رماح عبد القادر
*بين الروح والوطن: عنوان لديوان الشاعر عثمان ابوسوار
*عرائس: قوز العرائس، تلال رمل شامخة توجد هُناك، مزار للعصاري وامزجة الهدوء والشعر
*المكنية: منطقة توجد غرب شندي مسقط راس الشاعرين (ابوسوار/ابوباسل)