
بين الحرب والحياة
الوليد عشميق
في خضم الحروب، حيث تشتعل النيران وتُدمر المدن، تظل الحياة تنبض بأشكال مختلفة. بين أصوات المدافع وصمت المقابر، تخرج قصص تُثبت أن الإنسان قادر على التمسك بالأمل، حتى في أحلك الظروف.
“بين الحرب والحياة” ليس مجرد مجموعة من القصص والمواقف، بل هو مرآة تعكس الوجه الإنساني للحرب في السودان. إنها حكايات من قلوب أنهكها الألم لكنها ما زالت تنبض بالإصرار، منازل تحولت إلى ركام لكنها ظلت ملاذًا للحب، وأرواح ضاعت لكنها تركت أثرًا عميقًا في نفوس من بقوا.
هنا نروي قصص الناجين، الشهداء، والأبطال المجهولين الذين حملوا على عاتقهم عبء الحرب، وكتبوا في صفحات التاريخ السوداني أسمى معاني التضحية والصمود. بين الحرب والحياة، نفتح نافذة تطل على الألم، الأمل، والإنسانية التي لا تموت مهما قست الظروف.
“بين الحرب والحياة”، حكايات نرويها لننقل صوت من لا صوت له، ونوثق ما لا ينبغي أن يُنسى
التكايا: واحات الحياة في رماد الحرب
في قلب المأساة التي ضربت السودان، كانت الحرب تدمر كل شيء: المنازل، الأسواق، وحتى الأرواح. ومع اشتداد الأزمة، لم تفرق الحرب بين غني وفقير، الجميع أصبحوا سواسية في المعاناة. في هذه الظروف القاسية، ظهر وجه آخر من المجتمع السوداني، وجه عرفه التاريخ منذ آلاف السنين: التكافل والتعاون.
وسط الخراب، ظهرت فكرة التكايا، تلك الواحات الصغيرة التي تمد الناس بالطعام والحياة. لم تكن التكايا مجرد أماكن لتقديم وجبة ساخنة، بل كانت رمزًا للإنسانية التي ترفض أن تموت.
بدايات الفكرة: عودة إلى الجذور
حين بدأت الحرب تخنق الأحياء، واضطر الكثيرون إلى مغادرة منازلهم، بقي البعض لأسباب مختلفة: عدم توفر المال، ظروف صحية، أو حتى قناعات خاصة بالبقاء والصمود. هؤلاء الذين بقوا وجدوا أنفسهم بلا موارد، فالمحلات أُغلقت، والأسواق نُهبت، والحياة توقفت.
في خضم هذا الظلام، قرر أبناء الحي في إحدى مناطق الخرطوم القديمة أن يتكاتفوا. المغتربون، الميسورون، وكل من استطاع المساهمة، بدأوا بإرسال الأموال أو المواد الغذائية لإنشاء تكية في وسط الحي. تحولت ساحة صغيرة أمام مسجد مهدم إلى مطبخ جماعي، حيث تطوع النساء والرجال لطهي الطعام وتوزيعه.
التكايا: قَصص من الحياة
1. أم هاشم وصحن الملاح
كانت “أم هاشم” عجوزًا تسكن وحيدة بعد أن سافر أبناؤها بحثًا عن حياة أفضل. عندما علمت بفكرة التكية، أخذت آخر ما لديها من دقيق وزيت وذهبت للمساهمة. قالت للجيران: “إن لم أستطع أن أكل بنفسي، سأطبخ لغيري.” كانت أم هاشم تأتي ومعاها جارتها نجاة يوميًا للمساعدة في إعداد “صحن الملاح” الذي كان يوزع على عشرات الأسر.
2. الطفل الذي أصبح رمزا
في أحد الأيام، جاء طفل صغير يُدعى “سامي” إلى التكية، يحمل وعاءً صغيرًا لملئه بالطعام لأمه المريضة. كان سامي يقطع مسافة طويلة تحت القصف للوصول إلى التكية يوميًا. أصبح وجوده يلهم الجميع، حيث قال عوض موسى فضل السيد “كلما رأيت سامي، أجد دافعًا لأواصل الطبخ، لأنني أعلم أن هناك من يعتمد علينا.”
3. رجال في الظل
لم تكن التكايا ممكنة دون دعم المغتربين والخيرين. كان “عبدالرحمن”، رجل سوداني يعمل في الخليج، يرسل أمواله بانتظام لدعم التكية في حيّه. قال في رسالة لأحد أقاربه: “إذا لم أكن قادرًا على حماية أهلي من الحرب، فأقل ما أفعله هو أن أساعدهم على البقاء.”
رمز الأمل في وسط الدمار
لم تكن التكايا مجرد مصدر للطعام، بل أصبحت مركزًا للتواصل والتعاضد. اجتمع الناس حولها ليس فقط لتناول وجبة، بل لتبادل الأخبار، للبحث عن أحبائهم، أو حتى للبحث عن لحظة من الأمل وسط كل هذا الخراب.
كانت التكايا واحات حقيقية، تذكر الجميع بأن الحرب، مهما كانت قاسية، لا تستطيع أن تمحو الإنسانية المتجذرة في قلوب الناس.
التكايا، إرث سوداني خالد
الحرب في السودان كشفت عن عمق روح التكافل التي تسري في عروق المجتمع السوداني. التكايا ليست مجرد فكرة عابرة، بل هي امتداد لإرث طويل من التعاون والمحبة. وسط رماد الحرب وركام الدمار، كانت التكايا تصرخ بصوت واحد: الإنسانية لا تموت.
إن قصص التكايا تستحق أن تُروى، لأنها ليست فقط قصص نجاة، بل دروس في الصمود والإصرار على البقاء كرمز حي للقيم السودانية العريقة.