هناك بعض الذكريات التي تطوف عابرة وتزور بلا استئذان في مواقف لا ارتباط لها بالحالة الماثلة، بعضها كالوحي وبعضها يترى في تكرار لا تفسير له، آخذاً نمطاً واحداً لا يتغير، كما أن بعضها ذكرى تعبّر عن نفسها في المشاهد عصية النسيان. ومن هذه الذكريات الطائفة.. خيال تلك المرأة، البشوشة الوجه، السمراء اللون، الوسيمة التقاطيع رغم عمرها الذي تجاوز الخمسين (حاجة حواء) وهي تضع على رأسها قطعة قماش ملفوفة بعناية تسمى (وقاية) ومن فوقها تحمل إناءً من الألمونيوم مليئاً بعجين الذرة، لا أزال أتذكرها وهي قادمة من حي “روتو” الشهير بالدويم وهي تدلف إلى منزلنا الكائن في (الحي التحت) الحي الثانى أو (حلة البحر)، وتضع ما تحمل برفق عن رأسها من حمل وتفرغه في (برمة العجين). وبه كيل ملوتين من الذرة عينة (وزن عشرة) أو (ود الفحل) وذلك بعد أن تمت (فندكتها) كما يطلقون عليها، وهي طريقة لمعالجة الذرة وطحنها مائياً. وهي تماثل تماماً عملية الطحن المائي لاستخلاص النِّشا والجلوكوز من الذرة في المصانع الحديثة. والطحن المائي”Wet Milling” تختلف عن الطحن الجاف “Dry Milling”. فبينما نجد أن الطحن الجاف يتم فيه طحن الحبوب كاملة وهي جافة (قبل أو بعد إزالة قشرتها) بواسطة الطاحونة ذات الحجرين أو في داخل البيوت عن طريق المرحاكة.. وهي طحن الحبوب بين حجرين، أحدهما كبير وهو ثابت على الأرض.. والآخر صغير وهو متحرك تتم به عملية الطحين. أما الطحن المائي فيتم فيه إغراق الحبوب كاملة في الماء لمدة لا تقل عن نهار كامل ومن ثم طحنها بالمرحاكة أو دقها على (الفندك).. مع إضافة قليل من الماء لاستخلاص عجينة الذرة (في صناعة النِّشا والجلوكوز يسمى حليب الذرة) وفرزها عن القشرة (الردة).. كل ذلك مترافقاً مع تصفيتها من الشوائب.. ويكون الناتج عجيناً فائق النعومة.. ولكن رغم هذا فهي لا تصل إلى نعومة (حليب المريسة) إذ تتم هنا إزالة الشوائب بالتصفية عن طريق قطعة قماش ناعمة تسمى (الصفاية). أذكر أنها كانت تتقاضى قرشين عن الملوتين (ما يسمى بالربع أو نصف الكيلة)، أي قرش لكل ملوة ذرة طحين.. مع شمول هذا حمل هذه الكمية لمسافة تزيد عن الثلاثة كيلومترات ذهاباً وبعدها إياباً، إذ إن “حي روتو” يقع في الجزء الجنوبي الغربي من مدينة الدويم. وقد عرف بأن معظم قاطنيه هم قبائل الفلاتة التي تمتهن العديد من الأعمال والمهن، وكان إعداد العجين ضمن هذه المهن. وما زلت أذكر قطع الـ”قدو قدو” الحمراء والصفراء الصغيرة وهي تخرج من أطراف فمها، في حركة مضغ دائم لها. في ذلك الزمن ولوقت قريب مثلث الذرة الغذاء الرئيسي لأهل السودان، خاصة وسط السودان والجنوب والشرق، لأن غرب السودان انتشرت فيه زراعة واستهلاك الدخن كمحصول رئيسي، بينما الشمال اشتهر بالقمح أيضاً مع وجود الذرة (الماريق). وكانت الذرة هي المادة الرئيسية لصناعة الكسرة (الرهيفة أو السن سن)، إضافة إلى العصيدة وقراصة الذرة وهي في الغالب الأعم تصنع لنزلاء السجون. كما يشمل استعمالات الذرة مشروبات الـ”حلومر” و”الآبري الأبيض” و”المريسة” و”البقنية”، (العرقي المقطر) (عرقي العيش).. إضافة إلى استعمالات أخرى، إذ يدخل في إعداد بعض المواد الخاصة بعطور النساء. كما ظل يمثل الغذاء الرئيسي للحيوان بأنواعه. وقديماً إذا كانت الكسرة والعصيدة هي الغذاء الرئيسي لسكان الوسط والشرق في السودان، فإن “المريسة” تمثل الغذاء الرئيسي للعديد من سكان الجنوب والجبال وبعض قبائل التماس مع الجنوب.. وكلمة “مريسة” ذات أصل كوشي من مقطعين هما “مري واسي”.. (أي ماء الذرة).. “مري” تعني ذرة ومنها ماريق وتعني الذرة عند الشايقية.. وقديما تسمى السودانيون باسم شعب المور، نسبة إلى اعتمادهم على الذرة في غذائهم.. وقد انتقلت هذه الكلمة إلى بعض اللغات الأخرى. فهي تعني النبات المقدس لأن كلمة (مار) تعني مقدس أو إلهي ومنها “مار جرجس” أي القديس جرجس وجبل مرة (مارا) أي الجبل المقدس، هذا علماً بأن معظم أنواع الذرة معروفة منذ القدم في السودان، كالذرة الرفيعة بأنواعها المختلفة البيضاء والسمراء والحمراء. إضافة إلى الصفراء المسماة بالشامية وتعرف في السودان بـ(عيش الريف). وقد ترك هذا النبات المقدس أثراً بارزاً في حياة السودانيين وثقافاتهم قديماً وحديثاً، إذ مثلت الذرة وإنتاجها مصدر فخر وثراء للمجموعات المنتجة لها، وذلك لأن الذرة من المحاصيل الإستراتيجية ذات الأهمية البالغة والمؤثرة اقتصادياً، ولعلنا نذكر التأثير الاقتصادي الكبير لما يسمى بحزام الذرة الأمريكي الذي يشمل حوالي تسع ولايات أمريكية، ولعل أهمها آيوا وإلينوي وإنديانا وأوهايو وميتشجان ونبراسكا… الخ. وتذهب بعض التفاسير التاريخية إلى أن اسم أمريكا نفسها مأخوذ من كلمة مري (ذرة) الكوشية، إذ إنها أكبر دولة منتجة للذرة في العالم ويقارب إنتاجها الـ(400) ألف طن في العام متفوقة على الصين والاتحاد الأوروبي والأرجنتين مجتمعة. حتى بدايات القرن الماضي لم تكن الحياة ذات طبيعة سهلة في السودان كما يتخيلها الناس، فلم تكن هناك وظائف تذكر، والاقتصاد ما زال رعوياً في أغلبه، وزراعياً تقليدياً في معظم جوانبه يهدف إلى الاكتفاء الذاتي. والتجارة كان يغلب عليها التبادل السلعي. أما صناعياً فقد كانت الصناعات المنزلية هي سيدة الموقف، مثل صناعات الدمور والصوف وفتل الحبال وصناعة البروش والفخار وتجفيف الأسماك، إضافة إلى صناعات الألبان مثل السمن و”الروب”، مع تربية الحمام والدجاج والماعز والضأن وبعض النشاطات المتعلقة برعي الحيوان. كانت المدينة محاطة بالأراضي الزراعية.. وتسمى زراعة البلدات، حيث كان الغرض منها توفير السلعة لملاك الأرض وبيع ما تبقى من عيوش إلى تجار المدن في أسواق العيش (زريبة العيش).. وفي الدويم كانت الزريبة تقع بالقرب من مرسى السفن، وذلك لسهولة الشحن على المراكب الكبيرة وصنادل وبواخر البضائع التي تجوب النيل الأبيض شمالاً وجنوباً. كنا ونحن صغار، عندما نرغب في ممارسة هواية صيد الطيور نأخذ (أشراكنا) المصنوعة من العصب و(القلوبيات) المصنوعة من الحديد ونقوم بنصبها بالقرب من الزريبة، حيث كانت مرتعاً للعديد من الطيور خاصة الصغيرة منها.. وكنا نغني لها بعض الأغاني مثل: (يا قدالي هب هب.. شركك عالي.. هب هب).. إيماناً منا بأن ذلك يدعوها للنزول مباشرة على أشراكنا. الكسرة لم تكن تباع إلا نادراً (وإنما كانت تطلب من الجيران)، فهي متوفرة بكثرة في أي بيت وفي أي وقت.. والذرة المستعملة بكثرة في الكسرة والعصيدة هي “الفتريتة” لأغلب الناس خاصة الفقراء وتمتاز “الفتريتة” بحلاوتها وغناها بالسكروز. أما الذرة الرفيعة البيضاء مثل “ود الفحل” و”وزن عشرة” ذات الحبة الكبيرة فهي منتشرة بين سكان المدن وبصورة كبيرة بين ميسوري الحال. و”الفتريتة” لون كسرتها أقرب إلى البنفسج، أما الأخرى فتكون كسرتها بيضاء (لمحتوى النشا المستخلص منها). كما ذكرت، فإن بيع الكسرة لم يكن مألوفاً ومنتشراً قديماً، وكانت لا تباع إلا ضمن ما يقدم من أكل داخل المطاعم مرافقة للعديد من أنواع الأكل خاصة ما يسمى بـ(الأكل البلدي).. ومن ممن عاش في الدويم لم يتناول البلدي في مطاعم الأعمام “بشير” أو “عوض ريد” أو “حسن الزبير” وخلافهم “عليهم الرحمة” أو لم يتوقف عند مطعم “بقادي” بالشيخ الصديق في طريق ذهابه وإيابه إلى ومن الخرطوم! ونسبة لأن الذرة تعدّ طعاماً مقدساً فقد ارتبطت قديماً بالمناسبات، خاصة الأفراح إذ كان ماؤها يقدّم في المناسبات في شكل “مريسة” أو “بقنية”. وكما ذكرت فإن “المريسة” هي بمثابة الشراب المقدس أو شراب الآلهة. فقد وجدت جرارها مدفونة في داخل المعابد وفي المدافن، وحديثاً احتار السودانيون في توصيف “المريسة” وهل هي خمر أم مجرد غذاء!! وأذكر وأنا صغير، أنني كنت كثير الأسئلة وكنت أتابع والدتي بالأسئلة المتلاحقة، التي كانت تجيب عنها بصبر عجيب.. ومن الأجوبة التي ما زالت محفورة في ذاكرتي أنني سألتها يوماً عن جيراننا الذين يصنعون “المريسة” ويسكنون في بيت يعرف بـ(حوش البقر)، وعرفت لاحقاً أنه يطلق عليه لقب (الطلمبة).. وذلك بعد أن ذهبت إليهم واستجلبت منهم “عليقة” لخروف العيد (مشق أو مشك) وهي “تفل” الذرة بعد تصفية “المريسة” منه، وأعتقد أنها (مشق) لاعتقادي أن الكلمة كوشية يستعملها بقاياهم من قبائل.. خاصة قبيلة الشايقية التي يختم أفرادها الكلمات دائماً بحرف القاف (واسوق، ماريق، دفيق، كوريق، نوريق… الخ). علماً بأن قلبَ القاف كافاً ما زال موجوداً في اللغة العربية، فنحن نقول (كتل) بدلاً عن (قتل) و(مكة) بدلاً من (مقة)، ومقة هو إله القمر القديم وهو إله الكوشيين (أمون) الذي يرمز إليه خطأ بالشمس. كنت قد سألت والدتي عن كلمات سمعتها من العم عبد الرحمن الرباطابي سيد الدكان (هكذا كنا نسميه) “عليه الرحمة”، وهي أن هؤلاء قروشهم قروش حرام لأنهم يصنعون “المريسة”، وعلماً بأنني كنت وقتها لا أعي معنى حلال وحرام ولكن ارتبط المعنى في مخيلتي بالعيب، إذ إننا كنا دائماً ما نُزجر عن فعل الأشياء المشينة بتغليفها بكلمة (عيب)، سكن هذا في عقلي فترة طويلة، وبعدها بعدة سنوات كنت اسألها عن إحدى عائلات المدينة الكريمة، فأفادتني بأن هؤلاء من أخيار البلد ولكنها ختمت كلامها بجملة وقفت عندها طويلاً.. إذ قالت لي: (ديل كانت شَدَّتهم يوم الاتنين)، وعندما استوضحتها عن ذلك أشارت إلى أنهم يصنعون “المريسة” ويبيعونها يوم (الاثنين) فتساءلت مستنكراً: (ولكنهم عائلة محترمة؟!)، قالت لي: (يا ولدي أسه بيع الكسرة واللقيمات عيب؟)، فأجبت: (لا طبعاً.. فقالت: (المريسة زمان كانت قوت الناس، وصناعة المريسة وبيعها لم يكن عيباً وما كان في وظائف ولا شغل)! ففهمت ما غاب عني وعلمت أنها كانت قوتاً ولم تكن خمراً، فقد كانت إحدى ثقافات الغذاء وتقدم في المناسبة (بصحبة البقنية)، كما يقدم البارد اليوم من مشروبات غازية (بيبسي، كولا، فيمتو.. الخ). و(البقنية) أشبه بعصير مطحون الذرة، وتمتاز بأنها قليلة التخمر من (المريسة)، وتُشرب للاستقواء بها و”قطع العطش” كما يقولون، إضافة إلى كونها غذاءً مفيداً. وتمتاز المشروبات المستخلصة من الذرة (خاصة الفتريتة) باحتوائها على نسبة عالية من النشويات والسكريات والأملاح والألياف، والعديد من الفيتامينات والمعادن كالكالسيوم والحديد والمغنسيوم والنحاس والصوديوم.. الخ. كما تحتوي على الأحماض الدهنية والفوليك والدهون والبروتينات، كما تمتاز مشروبات الذرة المنبتة بقدرتها على تنظيف الكليتين من الحصاوى ومنع الأمراض المرتبطة خاصة الفشل الكلوي، إذ إن تناولها يؤدي إلى كثرة التبول وزيادة كميته وبالتالي تنظيف الجسم والكلى من السموم. هذا الأمر أدى إلى أن يدعي كثير من الناس (وهو قول يحمل الكثير من الصدقية) أن انتشار الأمراض الحديثة من سكري وضغط وفشل كلوي وسرطانات في السودان أخيراً مرده إلى التخلي عن تناول الأطعمة والمشروبات المصنوعة من الذرة، مثلاً نجد أن (المريسة) تصنع من الذرة النابتة (الزريعة)، وهي تمثل خلايا جذعية أولية للبنات الجديد مشحونة بكمية هائلة من الطاقة الكهرومغناطيسية (لحاجة النبات نفسه لها لعملية الإنبات)، وعادة ما نجد أن الأغذية المنبتة تحتوي على مواد تصل إلى ستة أو عشرة أضعاف الفائدة المرجوة من النباتات غير المنبتة، فمثلاً قد تزداد كمية فيتامين (سي) في (زريعة الذرة) إلى ثمانية أضعاف كميته من الذرة العادية. لهذا يعتقد كثير من العلماء نتيجة لدراسات عديدة أن الأغذية المنبتة لها القدرة على مكافحة الخلايا الحرة المسببة للسرطانات والعديد من الأمراض، ويستدل البعض بأن القبائل التي ما زالت تعتمد بصورة كبيرة على “المريسة” المستخلصة من الذرة المنبتة في غذائها (قبائل جنوب السودان مثلاً) لا يعرف أفرادها الأمراض المنتشرة اليوم مثل الضغط والسكري، وتكاد أن تنعدم فيها أمراض السرطان والفشل الكلوي. من الصناعات الغذائية المهمة جداً التي تعتمد على الذرة بأنواعها بشكل كامل هي صناعة النِّشا والجلوكوز، إذ يتم فيها استخلاص مادة النِّشا ذات الاستعمالات المتعددة، (يدخل النِّشا في تركيب ما يزيد عن 80 صناعة ابتداءً من الكاسترد وانتهاءً بالمتفجرات)، إضافة إلى استخلاص المواد المستعملة في صناعة الحلويات والغذائيات مثل الجلوكوز (نسبة تركيزه 81% للسكر) والسكروز (نسبة تركيزه 100%) والفركتوز (نسبة تركيزه 110% للسكر)، وهي صناعة تتم فيها الاستفادة من حبة الذرة بالكامل.. إذ يستخلص من مكونات النِّشا البيضاء التي بداخلها ما يسمى بحليب الذرة، ومنه يستخلص النِّشا والجلوكوز حسب النسبة المطلوبة صناعياً. ومن نواة الحبة الناتجة بعد الطحن المائي يستخلص واحد من أجود أنواع الزيوت في العالم.. وهو زيت عالي النقاء وكثيف القوام ويستعمل في صناعه الجلسرين، هذا إضافة إلى أن القشرة الخارجية (الردة) تعدّ من أجود أنواع الأعلاف للحيوان بأنواعه. لهذا فإن الذرة ولسهولة زراعتها ومواءمتها لمناخ السودان تعدّ غذاءً إستراتيجياً يغنيك عن إملاءات أباطرة الغذاء.. وأذكر مرة وقبل حوالي ثلاثة أعوام أن كنت بالجارة إثيوبيا في رحلة عمل.. قابلت خلالها مجموعة من الوزراء، وأذكر أن أحدهم حكى لي حادثة كان لها عظيم الأثر على الشعب الإثيوبي بعد الثورة .. وذلك تعليقاً على ملاحظتي التي جاءت أثناء حديثي معه بأن وجبة (اللانجيرا) ما زالت تمثل الغذاء الرئيسي للشعب الإثيوبي، فقال لي إنه وبعد انتصار الثورة على نظام منقستو هايلي مريام.. كانوا بالسودان وقتها.. وقد استدعتهم الرئاسة السودانية (هو والرئيس مليس زيناوي وآخر)، وقدمت إليهم بعض النصائح، وكان إحداها أن لا يتخلوا عن وجبتهم الوطنية، وأن لا يتحولوا إلى دقيق القمح.. وقد اتبعوا هذه النصيحة وحافظوا على (اللانجيرا) المصنوعة من الذرة في غذائهم إلى اليوم.. وقلت في سري: ليت الناصحين فعلوا في أنفسهم ما نصحوا به الآخرين.. إذ لو ظل السودانيون على وجبتهم الرئيسية المصنوعة من الذرة لما كانت لديهم اليوم مشاكل دقيق أو خبز أو صفوف.