يجادل العلماء الاقتصاديين بأن البناء الاقتصادي للدولة ليس وصفة جاهزة يمكن تطبيقها في جميع الدول، وإنما هناك محددات وأسباب داخلية في كل دول على حده قد تؤثر سلبا أو إيجابا في المحصلة النهائية لتطبيق هذه السياسة الاقتصادية أو تلك، ومن بين أهم هذه العوامل الثقافة المجتمعية، الثقافة العملية، والثقافة المؤسساتية. إسقاط ذلك على الحالة السودانية سيظهر أن الحزمة الاقتصادية التي تعتزم تطبيقها الحكومة الانتقالية ورغم أنها على الورق وبناءا على العلوم الاقتصادية حزمة جيدة وناجحة، ولكن تطبيقها على الأرض قد لا يقود إلى النجاح، بنفس القدر الحزم الأخرى التي يعرضها المناوئون لسياسة الحكومة الاقتصادية، تواجه نفس الاشكال، ونفس المحددات، ويصبح نجاحها من عدمها غير مضمون أيضا.
منذ الاستقلال والى فترة متقدمة قليلا يمكن القول بأن مركز الدولة السودانية كان باهرا، وكانت الخدمة المدنية المتوارثة من العهد الانجليزي منضبطة، بينما يمكن في نفس الوقت الحديث عن أطراف غارقة في الظلام والبؤس، الخرطوم مثلا كانت تتمتع بالكهرباء والماء الصحي والطرق والمواصلات، بينما قرى الجزيرة مثلا كانت تفتقر لكل هذه الأشياء، وهي حقوق طبيعية لكل مواطن في بلده وليست رفاهيات، مع ملاحظة أن مشروع الجزيرة في ذلك الزمان كان يمثل أكثر من نصف دخل الدولة السودانية، لذلك لا يمكن الاحتجاج بأن السودان في الماضي كان افضل وان المناسب هو استخدام ذات الطريقة الاقتصادية القديمة. بذات المستوى فإن نظام الانقاذ إستخدم سياسة التحرير، ولم تحدث السياسة أثرا كبيرا في حياة الناس، فالاثر الاقتصادي الأهم كان ناتجا عن ظهور البترول وليس عن السياسات الاقتصادية، وعليه لا يمكن الجزم بنجاح سياسة السوق الحر.
معظم الأحزاب السياسية السودانية ان لم يكن كلها لا تتبنى سياسة السوق الحر، وإنما تتبنى برامج اقتصادية مبنية على دولة الرعاية الإجتماعية، ليس مفهوما هل المناداة بدولة الرعاية الاجتماعية واقتصاد الدولة المركزية هو برنامج سياسي للاحزاب من أجل كسب ود الجماهير ام هو برنامج اقتصادي حقيقي يؤمن بجدوى تطبيق هذه السياسة؟! فالشاهد أن معظم هذه الأحزاب الآن شريكة في الحكومة الانتقالية التي تطبق السياسة الاقتصادية الراسمالية، كما أن الكثير من الأحزاب خارج الحكومة كانت جزء من حكومة البشير التي تبنت في مواقف كثيرة الخط الراسمالي، وفي كلا الحالتين لم نر رفضا صارما لهذه السياسات الاقتصادية.
بتجميع كل ذلك، يمكن القول بأن ثمة طريقا ثالثا هو الاضمن، وهو البحث عن نموذج اقتصادي سوداني، منطلق من ثقافة المجتمع السوداني. كنت قد ذكرت في مقال سابق الأبعاد التاريخية والاجتماعية والثقافية التي دعمت قيام وتطور النظام الرأسمالي في الغرب، فهو لم ينشأ من فراغ وإنما من صلب تاريخ وممارسة الاسلاف في الغرب لذلك نجح عندهم، وعلى ذات المنوال فإن النموذج الاقتصادي السوداني المنطلق من ثقافتنا وتاريخنا سيكون الخيار الأفضل والأكثر فرصا للنجاح. الدراسات والبحوث والتقصي في تاريخ وثقافة المجتمع السوداني هو السبيل لاستخراج هذا النموذج.
238