قبل حوالي شهر أو يزيد أتصلت هاتفياً بأخي وصديقي الأستاذ ضياء الدين بلال وأخبرته عن رغبتي في زيارة المفكر السياسي والرجل المحنك الدكتور منصور خالد.
رغبتي في الزيارة كان مردها لمعاودة الرجل وهو مريض بعد أن علمت بأن الأطباء أوصوه ببتر قدمه من الكاحل، والأمر الآخر رغبتي في الإستماع لرأيه وتحليله لما يحدث من (هيصة) في الوطن ونظرته للتطورات والأحداث على كافة الأصعدة.
إتصالي بضياء سببه معرفتي بعلاقته الوثيقة بالرجل وتواصله المستمر معه منذ عقدين من الزمان، حيث سبق وحاوره عدة مرات عبر الصحف والتلفاز وكتب عنه الكثير من المقالات للدرجة التي ألف فيها كتاباً عن الرجل.
ضرب ضياء لنا موعداً مع الرجل وشدد عليّ في الإلتزام بالزمن، وقال لي منصور خالد دقيق جداً ومنضبط في مواعيده يا سهير الساعة واحدة ونص ظهراً يعني واحدة ونص ظهراً .
وكُنا في الموعد، دلفنا سوياً إلى منزله بوسط الخرطوم، تماماً على بعد أقل من كيلومتر من القصر الجمهوري، فُتح لنا الباب الخشبي العتيق وسرنا في حديقة غناء تحكي عن ذوق رفيع في اختيار العشبة والزهرة وما بين أشجار السايكس والأوركيدا والأفوربيا توهطت القولدن شور والياشوكا والهايبيسكس في تجانس يحكي قصة صداقة مع الجمال.
سرنا رفقة أحد رجاله في ممر بلون البلور، وعلى يسارنا حوض سباحة متوسط الحجم متصل من الأعلى بحوض سباحة آخر أكبر منه حجماً حيث ينسكب الماء كالشلال من الحوض الأعلى للحوض الأسفل والذي بدا أنه مر وقت طويل لم يستخدمه أحد.
دلفنا إلى مساحة أخرى في فناء المنزل أستقبلتنا فيها عدد من التماثيل العملاقة أشك أن لها مثيلاً في المتحف القومي السوداني، وأمامنا مباشرة مجسم ضخم هائل لحصان بالحجم الطبيعي نصفه عربي من الأمام وحتى الخاصرة، ونصفه غربي من المؤخرة والذيل، ومن دون فارس على ظهره..!! .
صعدنا سلماً إلى طابق علوي لنصل إلى بهو يتحدث فقط عن التاريخ، الرجل وبعناية فائقة اختار أثاثات منزلية لا مثيل لها، ليست فخمة أو باهظة السعر، لا … هي أقرب إلى رائحة العصور الوسطى.
كل شيء يوحي بالتاريخ. الكتب على أرفف المكتبة، صوره مع زعماء العالم أجمع، مؤلفاته، التحف، الفازات، الأباجورات، اللوحات على الحائط حتى المنضدة اتخذت شكل رجل وامرأة في حالة ذوبان عاطفي.
تشعر وأنت تتجول في منزله أن كل قطعة أثاث فيه تم أقتناؤها من أحد القصور في الممالك القديمة، وأنه يوثق عبرها لرحلاته التي طوى فيها العالم في لفافة نفث دخانها عبر كتب فلسفية تؤرخ ظلم الانسان لأخيه الانسان، كما تفضح أزمة السودان في نخبه أو هكذا قال الرجل في واحد من أشهر مؤلفاته.
جلسنا برهة في الصالة ثم جاءت إحدى مديرات المنزل لتخبرنا أنه في انتظارنا بغرفة نومه. صعدنا درجاً خشبياً متوسطاً ومشينا على أرضية من خشب الباركيه وبدا واضحاً مشغل أسطوانات قديم وضع في مكان بارز يحكي عن أذن موسيقية تستمع للموسيقى وهي خام دون ثرثرة التكنولوجيا.
وصلنا إلى غرفة نومه فوجدناه يجلس على كرسي وسط الغرفة ويمد قدميه على مقعد وثير ويدير ظهره لخزانة ملابس عملاقة تمتد بمساحة عشرة أمتار يقابلها سرير ضخم يحاكي امتدادها، وقد شدت أغطيته بعناية توضح أن سكنات الرجل في منزله محروسة بنظام ودقة ومتابعة.
بجانب الرجل كرسي مساج طبي وكرسي هزاز آخر وجهاز تلفاز في الواجهة ومنضدة بجانبه عليها بعض الصحف لمحت صحيفة (الجريدة) بينها وبعض الكتب القديمة.
كان يرتدي قميصاً أزرقاً بلون السماء بأكمام طويلة من القطن وعلى معصمه ساعة فاخرة أعتقد انها من بيوتات كارتيير، ويغطي كامل جسده بغطاء ابيض من الكتان ينحسر عن قدمه المُصابة والتي بدا واضحاً حجم وشدة الإلتهاب بها، حيث تم عصبها بشريط طبي سميك.
جلسنا إليه على امتداد ساعتين كان يتخلل حديثه هواء ساخن عن مآلات الوضع في السودان، لم يكن متفائلاً وأوضح أنه نقل آراءه هذه إلى القيادات في البلد، وتحديداً حديثه مع رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان.
وحين أبديت دهشتي من رأيه الصريح والواضح حول هشاشة الوضع وقلت له هل قلت ذلك للبرهان حقاً؟، أجابني أنا لا أكذب، فتنحنح ضياء.
كيف لا يقول الرجل ذلك وهو الذي أطلق عبارته الشهيرة في سلسلة مقالاته ضد نظام مايو بعنوان: (لاخير فينا أن لم نقلها) وركل منصب وزير الخارجية وعارض بشراسة.
عقب ذلك أخذنا الرجل في رحلة تطواف فلسفي، الرجل يستخدم عبارات وتشبيهات الفلاسفة التي يمكن الاستعانة بها وتركيبها على مختلف الأحداث، حين تستمع لحديث الرجل الهاديء وعباراته العميقة تتأكد أن المفكرون في كل العالم لديهم جين وراثي يختص فقط بإطلاق الحكمة.
حين غادرنا منزل منصور خالد وعقب أن اغلقنا الباب الخارجي للمنزل قلت لضياء أشعر أننا أغلقنا باب التاريخ، أجابني ضياء لربما تكون هذه الزيارة الأخيرة للرجل وقد كان …..
خارج السور:
رحل منصور خالد ولسان حال الوطن يشكو تكاثر الزعازع وقلة الأوتاد أو كما قال في آخر مؤلفاته.
كوش نيوز