شكل الثلاثون من يونيو من العام الماضى نقطة تحول عظيمة في ثورة ديسمبر المجيدة، غير أن المفاوضات التي أفضت إلى شراكة لم تكن على قدر تطلعات الشعب السوداني الطامح للتغيير الحقيقي، ولا على قدر تضحيات الشهداء والجرحى، ولا تطلعات الثوار الذين يضعون أهداف الثورة نصب أعينهم، ومستعدون أن يقدموا أرواحهم فداء للوطن. تأتي ذكرى الثلاثين من يونيو هذا العام وهناك كثير من الخلط بين ما تبتغيه الثورة والقوى الثورية، وما تقوم به الحكومة.
المتابعون للأحداث يعلمون مدى كثافة الدعوات والاستعدادات للخروج في مليونية توافق هذا التاريخ، في مجملها لتصحيح المسار الثوري، مع تعدد دوافع الداعين لها من الحادبين على الثورة والمناهضين لها. يأتى ذلك في الوقت الذي تهدر فيه الحكومة مواردها لرأب صدع تجمع المهنيين وإعادة تلاحم قوى الثورة وترحب بعودة حزب الأمة لهذه القوى. وفي ذلك خلط للأمور الإدارية مبتعداً بالحكومة عن أولوياتها وجداول مصفوفتها المعلنة، وإهدار لموارد دافع الضرائب الذي له أولويات أخرى أهمها قوت يومه وصحته.
تنادى كثير من هذه القوى بالخروج لتصحيح مسار الثورة التي يعتبرون أن هذه الحكومة وليدتها، ولهم معها قنوات مفتوحة تغنيهم عن المواكب. أهو تصحيح مسار وبداية الموجة الثانية للثورة السودانية التي أصابها نوع من الخمول المتعمد والتصدع غير المسؤول في أجسام كانت تعتبر قيادتها يوما ما، أم هي بداية النهاية لها؟ وبما أن الشئ بالشئِ يُذكر؛ فإن الموجة الثانية لجائحة كورونا أقرب إلينا من موجة ثانية لثورة لا نعلم من الذي سيكون وقودها إذا دفعت أحزاب وأجسام بشبابها وذويهم إلي تهلكة محتومة بڤايروس غير مرئي لكنه معلوم وتفشيه محتوم، فالتجمعات تعتبر مكانه المفضل، فما بالكم بمواكب مليونية!
يبدو أن الداعين لمليونية الثلاثين من يونيو من الأحزاب قرروا ترجيح مصلحتهم على مصلحة الوطن بعد إدراكهم خطأ الشراكة القائمة الآن، والذي سببه إنعدام الرؤية وضعف الإرادة الذي بدأ عندما تسابق المفاوضون نحو العسكر، وسعوا بعد ذلك لسرد المبررات لذلك بما فيها الضغوط الدولية، غير المعلنة، على الطرفين.
يظل الخلل المركب هو عدم اتساق الدعوة الثورية مع مطالب الشعب للحكومة. المطالب من الحكومة التي أعلنت أولوياتها والتي تتمثل في الدعوة لتجديد روح الثورة، والتي قد تعصف بالحكومة نفسها وبالإتفاق المشهود له دولياً. المطالب يجب أن لا ترتبط بزمن معين وبفعالية معينة ويمكن أن تصل أُذن الحكومة كما وصلت عبر إجتماع ممثلي من قوى الحرية والتغيير بمجلس الوزراء مساء الثاني والعشرين من يونيو الجارى، والذي تم فيه التأكيد على أن حق التظاهر مكفول للجميع. أما التنويه بالحالة الصحية والتحذير من انتشار كوڤيد-19 في بياناتهم فيذكرني بمن قال لي إياك إياك أن تبتل بالماء وأنا مكتوف الأيدي، فاغراً فاهي فينة، أو رافعاً عقيرتي عنان السماء أخرى؛ أهتف مردداً شعارات الثورة وسط موكب تذروه الڤايروسات، رأيناها أم لم نرها، قرأنا برتوكولات لجنة أطباء السودان المركزية المخصصة للحماية من الكورونا في زمن المواكب أم لم نقرأها.
كنت أتوقع من الأحزاب التي تعتبر الحاضنة السياسية للحكومة التحلى بالحكمة المجتمعية، والحنكة السياسية، ووضوح الهدف وسموه، مع إيجاد الآليات للوصول إليه. لذلك، وجب عليها توخى الوضوح عند رفع المطالب لزيادة بناء الثقة وردم الهوة بينها وبين الثوار التي خلقتها بسبب الإتفاق مع المجلس العسكري، ومن غير الواضح لجوئهم إلي الشارع الآن، مستنفرين كوادرهم دون ذِكر الأسباب الحقيقية، ومكتفين بخليط من مطالب الثورة وأهدافها. مختصر هذه الأسباب أن السلطة الآن ليست بيد المدنيين، وأن المدنية المنشودة ليست خالصة، وأن الصراع القائم الذي لا يريد أحد من أطراف الحكومة الحديث عنه صراع سلطة يعتبر عقبة كأداء رغم تحديات الصحة والمعيشة الطاحنة؛ صراع حول مَن يحكم السودان أعتى مِن تحديات المصفوفة والأولويات .
إذا فصلت هذه الأحزاب بين المطالب المعيشية التي تمس المواطن ومطالب الثورة واستحقاقاتها وعددت آليات النضال، وقدرت لكل وسيلة ظرف استخدامها، حينها ستجد هذه الأحزاب مَن يلتف حول قيادة الثورة، ويعمل على وحدة قواها لنيل مدنية خالصة لا مراء فيها، تقفل باب الإنقلابات العسكرية والدسائس المحورية وإلي الأبد.
المجد والرحمة والمغفرة لشهداء الثورة
خــالد طــه
كاتب وأكاديمي
*نقلاً عن مداميك